كأننا في غزة... عبارة رددها ثلاثة أشخاص من أعمار وأماكن مختلفة: صبية ثلاثينية في مارون الراس، وعم خمسيني في بليدا، وحجة ستينية في ميس الجبل. هذه العبارة وحدها تختصر المشهد. فبعد سنة وأربعة أشهر من مغادرة "بلادهم"، عاد أهالي البلدات الجنوبية إلى ديارهم في صباح يوم 18 شباط 2025، بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي ليلاً، وانتشار الجيش اللبناني في أزقة الخراب وتاريخ الحروب.توافد الأهاليإلى مداخل البلدات المحررة، توافد الأهالي بحشود السيارات. رفرفت الأعلام الحزبية، إما لحركة أمل أو حزب الله. على مدخل ميس الجبل، سيارة واحدة حملت 3 أعلام، حزب الله وحركة أمل والعلم اللبناني، وكأنها ترفض الانحياز أو لا تريد "زعل" أحد. أما القادمون، فجميعهم باللباس الأسود، النساء في عباءتهن، والرجال بقمصان داكنة. وكأن الجنوب كله في مأتم لا ينتهي. لا أحد بلا دبوس شهيد، أو صورة شهيد، أو وشاح يحمل اسماً أو قولا أو وجهاً لم يعد موجوداً.في البلدات الثلاثة، لم يبقَ شيء على حاله. أحياء بأكملها سويت بالأرض، الأهالي يسألون بعضهم "وين هون؟". كل بيت كان هدفاً. كل زقاق كان ميداناً. حتى البيوت التي لم تُقصف، احتلها الإسرائيلي ثم تركها خاوية إلا من آثار الخوف والخراب وبعض الأفخاخ. كل قذيفة، وصاروخ، وراجمة كانت تقصد إما تدمير جدار، أو قتل شباب، أو اجتثاث حلم. دمرت إسرائيل كل الجنوب.البحث عن ابنها في ميس الجبلفي ميس الجبل، جلست أم حمادة في الدار مع بناتها وزوجة ابنها وأحفادها. حمادة، ابنها البكر (38 سنة)، استشهد في أيلول الماضي. ترك ولدين وحياة كاملة خلفه. أخته تحمل ثيابه، وزوجته وأمه تمسكان بصوره. والكل ينتظر انتشاله من تحت الركام. وجهها مثقل بحزن متماسك، كأنه معبأ بكل الألم لكنه يأبى الانهيار. عيناها معلقتان في الفراغ، كأنهما تتجنبان الدموع، أو تؤجلانها إلى وقت آخر، إلى مكان لا يراها أحد. شفاهها ترتجف للحظة، لكنها تتماسك سريعًا، كأنها ترفض أن تنكسر أمام الغياب."حمادة كان حلو، والله حلو"، هكذا تستذكره وتتحدث عن تفاصيله واصفة إياه بكل حياتها. كيف يحب ميس الجبل وكان مسؤولاً عنها، ويناديها كل النهار "يا إمي"، وتقضي وقتها معه... تقول: "حكيولي كيّعها لإسرائيل". تمر لحظة صمت، كأنها تنقّب في داخلها عن صورته، عن صوته، عن تلك اللحظة التي غاب فيها إلى الأبد. تستدرك، كمن يحاول أن يثبت لنفسه قبل الآخرين أن الغياب لم يكن عبثًا، أن الفقدان لم يكن بلا معنى، فتقول بحزم يغلّف الحزن: "وأنا... أفتخر فيه".لا عزاء يكفي في بليدافي فسحة في بليدا، جلست النساء يتناولن الهريسة، وبجانبهن "صباط" شهيد وضعت فيه الورود باللون الأحمر، وصورته مرفوعة كأنه حاضر بينهن. وعلى الجهة المقابلة، عائلات تعزي بعضها، الأهالي يتفقدون ما بقي من بيوتهم، يلملمون ما نجا.
في كل أنحاء البلدات الثلاثة، يجلس الأهالي بالطريقة ذاتها، مهمومون، محزونون، حائرون، يد على خدهم، أخرى على رجلهم، محدّبو الظهر، ينظرون إلى الخراب، يفكرون أو يسرحون فيما حلّ بهم وبالبلاد. لا كلمات تكفي، ولا عزاء يشفي، لكنهم يحاولون التخفيف عن بعضهم، كأن معاناتهم المشتركة عزاء هزيل، وكأن المصيبة حين تعمّ... تهوّن.في بلدة مارون الراس، التي تقع على بعد كيلومترين من الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وتأتي أهميتها العسكرية كونها تقع على تلال مرتفعة تطل على العديد من المناطق المهمة في الجنوب اللبناني وشمال إسرائيل، جلست عائلة من ستة أشخاص وطفلين على العشب عند مدخل البلدة. أم تدّرس ابنتها. أخرى تدخن النرجيلة. يحاولون، بما تبقى من عادات يومية، أن يوهموا أنفسهم بأن الحياة طبيعية. والرجال يحاولون إخفاء مأساتهم من خلال الضحك والسخرية: "ما بقي شي، حدا بقلّك يهود؟". مخلفاتهم وأغراضهم في كل أرجاء البلدات: صناديق المياه، وصناديق الذخائر، ومعلبات الطعام، ومستلزمات شخصية.الجيش شبكة خلاصكل هدنة ليست سوى استراحة بين معركتين، وكل انسحاب ليس نهاية، بل تحضير لاجتياح جديد. تنظر السيدة بعيدًا، كأنها تزن ثقل السنوات، ثم تقول بيقين بارد: "هذه الأرض لن تهدأ... إلا حين يستكمل كل طرف نداءه الأخير: هم باحتلالها، ونحن بالصلاة في القدس".وبين الرجاء والخوف، هناك من يرى أن الجيش اللبناني هو شبكة الخلاص الوحيدة، آخر أمل للنجاة. سميرة، التي نزحت من ميس الجبل مع بداية حرب الإسناد في تشرين، عادت اليوم لتتفقد أرضها، "نريد أن نرى الضيعة، أرضنا، نريد أن نزور مقابر أهلنا". الطرقات مجروفة بالكامل، مشوهة بآثار الدبابات والآليات الثقيلة. المشي على الأقدام صعب، والسيارات بالكاد تمر. "جئنا من بيروت فجراً، وأحضرنا دراجات نارية كي لا نعلق في زحمة السيارات وصعوبة الطرقات"، يقول أحد الرجال في ميس الجبل."أكثر ما أندم عليه هو الأشياء الجديدة التي لم أستعملها. كنت أقول لنفسي سأتركها جديدة وأستخدم القديمة. والآن... كُلُّهُ ذهب سدى. كم كنت غبية"، تقول هدى وهي جالسة تتحسر على بيتها الذي خسرته بالكامل.لكنها لا تتوقف عند الندم. "إن شاء الله الجيش يحمي البلد، ليس لدينا أمل آخر. أتمنى أن يكونوا عند حسن ظننا وألا يخيبوا رجاءنا". ثم تسكت. تحاول أن تجد الكلمات، لكنها لا تأتي بسهولة. "نحن غايتنا أن نعيش بكرامة وأمان، تعبنا، أذللنا كثيراً".كل شيء بات رماداً"مع كل تفجير نسمعه، يحترق القلب أكثر. كل ما بنيناه، وما بناه أهلنا، تحول إلى رماد. لكننا أصحاب الأرض، وصاحب الحق سلطان، وهذه أرض جدودنا، تعبوا فيها وعمّروها، ولن نتركها". ثم تضيف هدى، كمن يواسي نفسها: "صحّ، ما بقى في إمكانيات الواحد يعمّر متل قبل، بس إن شاء الله... منقعد فيها".في عيترون، وسط الركام والغبار، تدور عجلات دراجة هوائية صغيرة، تصنع إيقاعًا غريبًا فوق الإسفلت المحطم والحجارة المتناثرة. طفلة بالكاد تبلغ الخامسة، ترفع قدميها للحظة، تترك جسدها ينزلق مع انحدار الطريق، تضحك. "رايحة جاية"، كأنها لا ترى الدمار حولها، أو كأنها قررت ألا تراه. عيناها تلمعان بعناد الحياة، بمرح طفولي يقاوم كل هذا الخراب، كأنها تقول للدبابات: "نحن هنا... وسنبقى".