مع تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة وإقرار بيانها الوزاري، يعيش الفنانون والعاملون في القطاع الثقافي حالة من القلق حيال أولوياتها التي تتصدرها إعادة الإعمار وإزالة آثار الحرب الإسرائيلية ومعالجة الأزمة الإقتصادية والمالية، ما قد يؤدي كالعادة إلى تهميش القطاع الثقافي، برغم وجود وزير مُجرّب، إلا أن التجارب السابقة لا تشي بالتفاؤل كثيراً.
صمد القطاع الثقافي خلال الأزمات الماضية، بفضل المبادرات والتعاون بين العاملين فيه والجمعيات الثقافية والمجتمع المدني. وبرغم غياب الدعم الحكومي، تمكن الفاعلون في المجال الثقافي من الحفاظ على الجمعيات والفضاءات الثقافية، إضافةً إلى دعم عدد كبير من الظواهر الثقافية والفنية. لكن التحديات اليوم أصبحت أكثر تعقيدًا؛ إذ يواجه الفنانون صعوبات جمة، وتكافح المساحات الثقافية من أجل البقاء، بينما تجد الجمعيات الثقافية صعوبة متزايدة في الحصول على التمويل، وبخاصة في ظل تصاعد التضخم عالميًا، وميل التيارات اليمينية المتطرفة إلى تمويل الثقافة المحلية؛ زدْ على ذلك رفض عدد كبير من الفنانين والجمعيات ما يُمكن أن يتوافر من تمويل عبر جهات داعمة لإسرائيل. كما يأتي الدعم الهائل للقطاعات الثقافية في دول الخليج كتحدٍ جديد للقطاع الثقافي في لبنان، إذ بدأ العاملون في هذا القطاع بالهجرة إلى تلك الدول بحثًا عن مصدر عيش أفضل وأكثر استمراراً.
استثمار اقتصادي وثقافي
يُشكّل الإنتاج الفني والثقافي جزءًا أساسيًا من الهوية اللبنانية، وهو قادر على تحفيز الاقتصاد من خلال جذب السيّاح، ودعم الصناعات الإبداعية، وخلق فرص عمل جديدة. وقد استفادت العديد من الدول من استراتيجيات ثقافية ناجحة، ما ساهم في تعزيز اقتصادها بشكل ملحوظ. في أميركا، تُظهر الدراسات أن الفنون والثقافة تساهم بشكل كبير في الاقتصاد الأمريكي، حيث أضافت أكثر من تريليون دولار للناتج المحلي الإجمالي في العام 2021، وهو ما يعادل 4.4% من حجم الاقتصاد الأمريكي. كما خلقت ملايين فرص العمل وحقّقت فائضًا تجاريًا. في إسبانيا، يُمثّل القطاع الثقافي 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، ويُوفّر أكثر من 700 ألف وظيفة، كما أن السياحة الثقافية تجذب ملايين الزوار سنويًا. في السعودية، وبالرغم من الاهتمام الحديث بالقطاع الثقافي، فقد ساهم في دعم النمو الاقتصادي بحوالي مليار دولار، أو 1.49% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي في العام 2023، مع هدف الوصول إلى 3% بحلول 2030. كما أن دراسة أُجريت في «معهد باسل فليحان» التابع لوزارة المالية اللبنانية في العام 2021 أظهرت أن ما يقارب 5 في المائة من الناتج المحلي اللبناني يأتي من الصناعات الثقافية والإبداعية.
وتُشكّل هذه النسبة نسبة وازنًة تصل إلى نحو ملياري دولار سنويًا، كما تُوظّف هذه القطاعات نحو 200 ألف شخص. لذلك، يُمكن للبنان أن يتجاوز دول عربية وغربية إذا أقدم على بناء استراتيجية ثقافية مستدامة تجمع بين دعم الإنتاج الفني محليًا، وتسويقه عربيًا ودوليًا، وربط الثقافة بقطاعي السياحة والاقتصاد، لا سيما أن لدى لبنان خبرات واسعة في هذا المجال، سواء في إدارة الأزمات أو في إدارة الإنتاج. ولا يُستبعد أن يتمكن القطاع الثقافي من المساهمة بأكثر من 10 في المائة من الناتج المحلي اللبناني، وأن يتعدى مدخوله الأربعة مليارات دولار سنويًا.
سياسة ثقافية جديدة
لعل أهم مراحل التخطيط الاستراتيجي هي مرحلة الدراسة التي تتضمن البحث والتحليل، والتي تُبنى على أساسها معظم الخطط، وفي بعض الأحيان قد تستغرق سنين لإنجازها، لكن ثمة دراسات جاهزة عن القطاع الثقافي تصلح للانطلاق في رسم خارطة طريق ثقافية جديدة. ومن أهم الدراسات التي يمكن الارتكاز عليها لبدء تطوير مثل هذه الإستراتيجية بأسرع وقت ممكن هما الدراستان الآتيتان: “نظرة حول السياسة الثقافية في لبنان”، من إعداد وتحرير الفنانة حنان الحاج علي وناديا فون مالستان بمشاركة الباحثين نايلة جعجع وسيليا حساني وكتارزينا بوزون والممولة من المورد الثقافي. تُسلط هذه الدراسة الضوء على هيكلية وزارة الثقافة والسياسات الثقافية، إضافةً إلى أوضاع الفنانين والفضاءات الثقافية. تؤكد الدراسة على ضرورة تعزيز دور الوزارة في تنفيذ السياسات الثقافية، وتفعيل الشراكة مع المجتمع المدني، وإعادة تشغيل صناديق الدعم المُجمدة. كما توصي بمراجعة قانون تنظيم المهن الفنية لمعالجة الثغرات، وبخاصةً المتعلقة بالضرائب والانتساب للنقابات الفنية. وتشير الدراسة إلى تحديات القطاع الثقافي، مثل نقص التمويل العام، وضعف الأطر القانونية والتنظيمية، وغياب الشفافية في توزيع الموارد، وتخلص إلى أن الجهود التشريعية الحالية لم تفلح في تجاوز هذه المشكلات بسبب البيروقراطية وضعف مشاركة المجتمع المدني. لذا، تدعو الدراسة إلى إصلاحات شاملة تُحدّث القوانين، وتُعزّز التمويل، وتُشرك جميع المعنيين في بناء نظام ثقافي مُستدام. “تطوير الفضاءات الثقافية في لبنان” التي أعدتها الباحثة أريج أبي حرب بتمويل من مؤسسة سمير قصير ومؤسسة فريدريش ناومان، والتي تتضمن أيضًا ملحق “دراسة حالة قانونية: المسرح اللبناني” الذي أعدته المحامية ليال صقر. تُسلط هذه الدراسة الضوء على المركزية الثقافية في بيروت، وغياب سياسات دعم مستدامة للفضاءات الثقافية، وضعف التسويق الدولي للإنتاج الثقافي اللبناني، وغياب تشريعات داعمة للفضاءات الثقافية والقطاع عمومًا.
إنقاذ القطاع الثقافي
بما أن الدراسات الأساسية حول القطاع الثقافي متوفرة، من الضروري البدء بخطوات عديدة متوازية، آخذين بالاعتبار الحلول المطروحة في تلك الدراسات، والوضع الحالي وضرورة التحرك بسرعة. لذلك من الممكن اقتراح الآتي: إنشاء مجلس وطني للثقافة ودعوته للاجتماع سريعًا: يجب أن يضم ممثلين عن المؤسسات الثقافية، المراكز الفنية، الفنانين المستقلين، والناشطين في القطاع الثقافي، وممثلين عن قطاع السياحة والقطاع الخاص، وخبراء في التسويق الثقافي. يتولى المجلس وضع خطة ثقافية مستدامة تشمل دعم المشاريع الثقافية ذات الأولوية، وبناء آليات تسويق دولية للثقافة اللبنانية، وإنشاء لجنة مصغرة لمتابعة ومراقبة النتائج دوريًا. خلق صندوق دعم للقطاع الثقافي لتأمين تمويل مستدام لتنفيذ الخطط المطروحة عبر: فرض ضريبة ثقافية صغيرة على السياح عبر المطار (5 أو 10 دولارات تُضاف إلى ضريبة المطار)، بحيث يستفيد منها السائح لحضور حفلات مجانية مدعومة من الوزارة. تخصيص جزء من الضريبة المضافة على المشاريع السياحية لمصلحة صندوق دعم القطاع الثقافي. فتح المجال للتبرع للصندوق من قبل المقيمين والمهاجرين وأي دولة أو منظمة مستعدة للمساهمة. توجيه الدعم إلى المشاريع ذات الأولوية: دعم الجمعيات والفضاءات الثقافية في ظل التحديات الراهنة، وشح الدعم الخارجي. دعم الفنانين من خلال منح شهرية مقابل تقديم عروض مجانية في الفضاءات الثقافية والسياحية، والتي يمكن تمويلها من ضريبة خاصة بالسياح فقط. على أن يبدأ في المرحلة الثانية إنتاج المشاريع التي تخدم الخطة الموضوعة، سواء من حيث الدعم المالي أو التسويق محليًا وعالميًا. الشروع بالعمل على إصدار قانون يقدم حوافز ضريبية للأفراد والمؤسسات التي تقدم تبرعات للقطاع الثقافي، أو تستضيف برامج ثقافية، لتشجيعها على دعم هذا القطاع، مما يُعزّز السياحة الثقافية.
نحو رؤية ثقافية مستدامة
ما تم طرحه هو فقط مجموعة من المقترحات التي يمكن البناء عليها بالتعاون مع المؤسسات الثقافية والناشطين في هذا القطاع لوضع خطة متكاملة بأسرع وقت ممكن. لقد أصبح التمويل الداخلي للقطاع الثقافي ضرورة، ويجب أن يكون في صلب أولويات حكومة الرئيس نوّاف سلام الحالية. وفي حال نجاح أي استراتيجية مرتبطة بهذا القطاع، لا يمكن استبعاد تحول وزارة الثقافة من وزارة هامشية إلى وزارة سيادية، نظرًا لدورها الاستراتيجي وتأثيرها العابر للقطاعات. فمن خلال وضع رؤية واضحة وتخطيط فعّال وشبكة علاقات دولية وعربية، يُمكن للبنان أن يستعيد مكانته الثقافية، ويُحوّل قطاعه الثقافي إلى رافد اقتصادي وسياحي قوي. في الختام، يُعوّل هذا القطاع على وزير الثقافة غسان سلامة لجهة ادراك أهمية دور الدولة المحوري في التنمية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ يمكن للقطاع الثقافي أن يُسهم في جذب السياح، وزيادة الإيرادات، وتعزيز الهوية الوطنية والتعبير عن التنوع الثقافي في لبنان.