رغم الاتهامات بالتسييس والخضوع للضغوط السياسية، إلا ان المؤسسة القضائية مثلت نقطة مهمة في صيرورة المشهد السياسي في عراق ما بعد العام 2023، لدرجة أن كثير من النُخب لا تتردد في وصفها بالحصن الآخير للدولة العراقية، والتي نجحت في الإبقاء على تماسك الدولة والحيلولة دون منع انفراط عقدها رغم العديد من المنعطفات السياسية الحادة التي شهدتها البلاد خلال هذه الفترة.
ومع هذه الرؤيا، ألا أن مؤسسة القضاء ومعها المحكمة الاتحادية (او كما يحلو للبعض تسميتها بالمحكمة الدستورية)، لم تسلم من اتهامات الخضوع لضغوطات السياسة والسماح لنفسها في التحرك في المنطقة الرمادية المخصصة للقوى السياسية النافذة، وهي اتهامات تنفيها المؤسسة وتؤكد على التمسك بدورها القضائي حتى وإن كانت بعض قراراتها تحمل بامتياز نكهة سياسية.
وبين هذا وذاك، فإن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها هي أن مؤسسة القضاء بكل مسمياتها بقيت تماسكة طوال أكثر من عقدين من الزمن، وتمكنت بفضل هذا التماسك من فرض قوتها وهيبتها ووحدة قراراتها في المشهد العراقي.
لكن ما حدث مؤخراً شكّل منعطفاً خطيراً في أداء هذه الموسسة، خصوصاً على مستوى وحدة القرار والموقف. فقد شهدت مؤسسة القضاء العراقي اهتزازاً وانقساماً كبيرين بسبب تضارب المواقف تجاه مواقف سياسية، خصوصاً ما يتعلق بالتفسير القانوني والدستوري للقوانين الثلاثة التي شرّعها البرلمان بطريقة ما بات يُعرف بالسلة الواحدة.
قوانين السلة الواحدة الثلاث
شكّل تمرير البرلمان نهاية كانون الثاني/يناير الماضي، ثلاثة قوانين دفعة واحدة وفق طريقة السلة الواحدة، نقطة فارقة وسابقة في المشهد السياسي العراقي.
والقوانين هي، قانون العفو الذي طالب السُنة العرب بقوة بتمريره، وقانون تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي مثّل مطلباً لأغلبية القوى السياسية الشيعية، وقانون إعادة الأملاك إلى أصحابها، خصوصاً في محافظة كركوك الغنية بالنفط والمتنازع عليها بين بغداد وأربيل، والذي دفع الأكراد بقوة لتمريره.
لم يكن ممكناً تمرير هذه القوانين بشكل منفرد بسبب الخلافات والتقاطعات الحادة، إضافة إلى غياب الثقة بين القوى السياسية. فكان قرار وضعها جميعاً في سلة واحدة والتصويت عليها مجتمعة، هو المخرج والحل الوحيد لضمان الحصول على الأغلبية البرلمانية في عملية التصويت.
ومع عدم وجود نص دستوري أو قانوني يجيز أو يمنع البرلمان من تمرير أكثر من قانون في عملية تصويت واحدة، تصاعدت حدة الجدل والانقسامات بين مؤيد ومعارض.
لم يمنع التوافق البرلماني في تمرير القوانين الثلاثة، من تعالي أصوات عدد من النواب الذين اعترضوا على ما حدث. هؤلاء النواب وصفوا ما جرى بأنه مخالف للدستور، وعبروا عن خشيتهم من أن يؤدي تبني هذا النهج إلى تكريس حالة غير صحية داخل قبة البرلمان، ستضر كثيراً بالعمل البرلماني.
وهكذا لجأ هؤلاء النواب الى المحكمة الاتحادية، مطالبين إياها بالتدخل لوقف تنفيذ هذه القرارات وإبطال ما جرى.
الموقف القانوني
استجابت المحكمة الاتحادية بداية للاعتراض، وأصدرت "أمراً ولائياً" تدعو فيه السلطات إلى وقف تنفيذ القرارات إلى حين النظر بشكل نهائي بقانونية ودستورية ما حدث.
ومع أن الامر الولائي يعني وقفاً مؤقتاً إلى حين البت نهائياً بالأمر، ألا أنه يعني أيضاً قبول المحكمة للدعاوى من حيث المبدأ، وهو موقف تسبب بردود فعل غاضبة سياسياً ومجتمعياً، خصوصاً من قبل السُنة العرب. واتهمت شخصيات بارزة المحكمة الاتحادية بالانحياز وهددوا بتصعيد الموقف.
ومع موجة الاعتراضات هذه، أعلن مجلس القضاء الأعلى الذي يرأسه القاضي فائق زيدان، في موقف مفاجئء وغير متوقع، أن الأمر الولائي الذي أصدرته المحكمة الاتحادية بوقف القوانين الثلاثة غير قانوني من الناحية الشكلية، أو "غير ذي موضوع"، بحسب البيان الصادر عن المجلس. ودعا المحاكم العراقية إلى المضي بتنفيذ القرارات الثلاثة، بعيداً عن القرار الذي اصدرته المحكمة الاتحادية.
لم يقِف الأمر عند هذا، بل إن نائب رئيس محكمة التمييز العراقية أعلن في تصريح، أن قرار المحكمة الاتحادية غير صحيح وأن الأمر الولائي الذي أصدرته لا يدخل ضمن اختصاصاتها.
وبرر رئيس مجلس القضاء ونائب رئيس محكمة التمييز موقفيهما، بالاستناد إلى نصوص قانونية ودستورية، وهو نفس الموقف الذي استندت إليه المحكمة الاتحادية في إصدار أمرها الولائي، والتي دعت الجميع إلى احترام ما صدر عنها والالتزام بالدستور الذي يعطي قرارتها العلوية على الجميع.
وإزاء هذه التطورات وما رافقها من مواقف وتداعيات سياسية وقضائية، والتي أحرجت المحكمة الاتحادية ووضعتها في زاوية ضيقة، أعلنت المحكمة رد الدعوى التي أقامها النواب المعترضون (بأغلبية عدد أعضائها وليس بالإجماع) وإلغاء أمرها الولائي الذي أصدرته في وقت سابق.
الدستور العراقي
منح الدستور العراقي المحكمة الاتحادية استقلالية تامة (المادة 92). وأعطى لقراراتها العلوية على جميع السلطات بدون استثناء، واعتبار قراراتها وما يصدر عنها بأنه "بات وملزم للسلطات كافة" (المادة 94).
ورغم حالة الجدل الذي رافق إصدار قرارات مهمة سابقة لها، خصوصاً قرارها بإعفاء رئيس مجلس النواب السابق محمد الحلبوسي من منصبه نهاية العام 2023، ألا أن الحصانة التي منحها الدستور لها، حالت دون إمكانية عدم إلتزام أي من الأطراف السياسية والقضائية بقرارتها، بل وتجنب توجيه النقد ضدها خوفاً من أي نتائج يمكن أن تترتب على هذه الانتقادات.
تقاطع المواقف داخل مؤسسة القضاء
شكلت هذه التطورات، وتقاطع المواقف القضائية لمؤسسات قانونية عراقية وازنة تتمتع بسلطات عليا، سابقة في المؤسسة القضائية العراقية.
مثّل قرار رئيس مجلس القضاء الأعلى وموقف نائب رئيس محكمة التمييز، لكثيرين خروج على النص الدستوري وتجاوزاً على صلاحيات المحكمة الاتحادية الدستورية. ولم يُخفِ هؤلاء خشيتهم من تداعيات مستقبلية لما جرى.
أبرز المتحدثين والمنتقدين كان النائب باسم خشان، وهو ـحد المعترضين على تمرير البرلمان قوانين السلة الواحدة. النائب خشان قال في تغريدة بعد قرار المحكمة الاتحادية التراجع عن أمرها الولائي ورد الدعاوى، إن "الدولة على وشك الانهيار إن لم تكن قد انهارت اليوم".
وان كان البعض يرى في تصريحات النائب الخشان شيء من المبالغة، ألا أنه بكل الأحوال جاء ليعبر عن واقع حقيقي لمآلات ما قد يحدث مستقبلاً نتيجة التقاطعات الحادة التي حدثت داخل المؤسسة القضائية.
خلاصة القول، إن هذه التقاطعات والتي قد تكون انعكاساً واضحاً لصراع خفي يجري داخل مؤسسة القضاء. لكن الخطورة تكمن في استمرارها وهو ما ينذر بكثير من الخطورة على قوة هذه المؤسسة وقدرتها على البقاء والصمود بعيداً عن أي تقاطعات سياسية ستؤدي في نهاية المطاف لتداعيات خطيرة على المشهد السياسي العراقي برمته.
إن مجرد التشكيك بقوة المؤسسة القضائية ووحدة قرارتها والدور الذي تقوم في ضبط إيقاع الخلافات السياسية وما ينجم عنها أحياناً من منعطفات حادة وخطيرة، سيكون سبباً بإضعاف هذه المؤسسة.
وإضعافها يعني حتمية دخول قوى سياسية متنفذة على طبيعة هذا الخلافات، وهذا سيناريو ستكون له نتائج كارثية على المشهد العراقي برمته.