2025- 02 - 20   |   بحث في الموقع  
logo "غلف ساندر بتروليوم" جاهزة لاستخراج النفط السوري..بعد رفع العقوبات logo حين منع نصرالله إبنه من الإتجار بالسيارات logo إيران تهدد بـ"تسوية إسرائيل بالأرض"... وتهديد مباشر لترامب! logo من إسرائيل إلى ألمانيا: انطلاق أعمال بناء "آرو 3" في برلين! logo لبنان ضمن المجموعة الأولى... سوريا ترفع رسوم التأشيرات! logo من داخل المطار... رد وهو يرفع صورة بن سلمان: اذهبوا إلى إيران! (فيديو) logo مخالفًا للتقاليد... إليكم المكان الذي اختاره البابا ليُدفن فيه! logo بسبب قنبلة... إخلاء مركز ثقافي في واشنطن!
يوم العودة إلى آخر القرى
2025-02-19 00:25:48


المخالب الخمسة التي تغرزها إسرائيل في أرض الجنوب، المواقع التي لن تخليها، هي بمثابة استمرار لسياسة القوة والتهديد تجاه لبنان، وتمديد للنزاع العسكري بوصفه "تفاوضاً" بالنار والاحتلال. إنها المخالب التي تستعملها إسرائيل لتكون "شريكة" في السياسة اللبنانية ووجهتها، داخلياً وخارجياً. فليست هذه المواقع لضمان أمن المستوطنات، بقدر ما هي إرساء لمفاعيل اتفاق وقف النار الأخير، الذي منح إسرائيل اليد الأمنية الطولى على امتداد الجغرافيا اللبنانية إلى أمد غير معلوم.هذه المواقع الخمسة هي التجسيد الميداني لنتائج الحرب الفتاكة، التي ما زال حزب الله يصارع ويعاني في توصيفها وفي ابتلاع حصيلتها المريرة، ويكابر سياسياً بوجه الداخل من ناحية، ويناور أمنياً وعسكرياً مع الخارج، الذي يتولى رعاية تنفيذ القرار 1701 ومهمة نزع سلاح حزب الله وتقويضه إن أمكن.
وعلى هذا، لا تنطوي نهائياً صفحة حرب إسرائيل على الجنوب، وإن اختتمت فصلها التدميري.. مؤقتاً.يوم الثلاثاء، عادت آخر القرى إلى أهلها بعد انسحاب قوات الاحتلال منها. ومنذ الصباح الباكر، كانت قوافل العائدين في القطاع الأوسط تتجه إلى بليدا ويارون وميس الجبل ومارون الراس.. تزدحم وتتوقف عند مداخلها. فالجيش اللبناني بفرقه الهندسية كان يعمل منذ الفجر على إزالة المخلفات الحربية والذخائر غير المنفجرة، فيما جرافاته تحاول فتح الطرق الداخلية التي اختفت معالمها.
الكثير يترك سياراته ويسير على الأقدام لكيلومترات عدة، بعدما فقدوا صبرهم متلهفين لتفقد بيوتهم وممتلكاتهم، وأشدهم تلهفاً هم أهالي الشهداء الذين لا تزال جثامينهم تحت الركام وبين حطام الأزقة والبيوت.
وإذ عايشت على امتداد خمسين عاماً الحروب المتعاقبة على لبنان، لم أشهد إطلاقاً ما رأيته في ميس الجبل. وإذا قلنا إن إعصاراً وزلزالاً معاً ضربا القرية، فهذا أقل من الواقع. الرجل الخمسيني، قال قبل دخولنا إلى بلدة: شيّدت ست فيلات، وأشتهي أن أجد واحدة غير مدمرة. هاجرت منذ العام 1980 وعملت ما بين أفريقيا وأميركا طوال 45 عاماً. مع ذلك، الحسرة هي فقط على الشباب الذين فقدوا حياتهم.
صديقه، دلني على ما بقي من سقف باطوني ضخم سوّي بالأرض: هذا مصنعي. كلفني مليون دولار، ويحتوي بضائع بنحو 750 ألف دولار. لم يبق شيء. الآن أنتظر إنجاز ملف تقاعدي في كندا، حيث عشت وعملت هناك.في المسير نحو ساحة ميس الجبل، يبدأ واحدنا بإجراء مقارنة تنافسية: أين الدمار الأكثر هولاً وإثارة وغرابة، أهذا المبنى أم ذاك؟ أهذه الحفرة العميقة أم هذه العجينة من بقايا سيارة وشجر وباطون، أو ذاك الخراب المتراكب كلوحة سوريالية حيث لا تزال الثريا معلقة وخزانة الثياب مفتوحة تبث إشارات خفية عن حياة حميمة وخاصة؟ الصور المتلاحقة لعوالم الجماد والكتل المشوهة، تفقد قوتها الصادمة سريعاً، إذ نرى حلقة دائرية لنساء متشحات بالسواد تحمل كل واحدة منهن صورة شهيدها وفقيدها، يترقبن بصمت ما يفعله رجال الإسعاف والدفاع المدني، الذين كانوا يبحثون وينتشلون بقايا ثياب مقاتلين أو أجزاء من جثامين أو عظاماً بشرية.
لا عويل ولا نواح ولا بكاء. ومن الأصعب أن تتحدث مع أي أحد من هؤلاء العائدين الواجمين، الذين خسروا كل كلام منذ أن صاروا في داخل القرية، يذهب كل واحد منهم ليفتش عن ما بقي من بيته. آخرون اتجهوا إلى الجبانة. رجل الدفاع المدني يقول: تقديراتنا تشير إلى وجود أكثر من 80 جثة، ليسوا كلهم من ميس الجبل. انتشلنا حتى الآن نحو 20.
وكان كشافة حزب الله أو حركة أمل (لست أدري) يبثون عبر مكبرات الصوت تلك الأناشيد الحجرية الصاخبة، ممتدحة الدم وما شابه.لا معنى لغموض أرقام وأعداد جثامين الشهداء، أو ثمة تواطؤ بعدم إشهارها. فتظل متفرقة ولا تُجمع. لكن واحدنا لا يرى أسرة أو فتاة مراهقة أو أم أو جدة إلا وتضع على صدرها زراً كبيراً يحمل صورة شهيد. ومعظمهن، كن يحملن بين أيديهن بورتريه شهيدهن في برواز مزجج. أنظر إلى طفلة تحمل صورة أبيها، وأرتجف. شعب يحمل جيلاً شاباً بأكمله في برواز الموت والفناء.
في الليلة الأخيرة، أقام الإسرائيليون "حفلة" تفجير منازل في أنحاء ميس الجبل، كاستعراض فاجر، أو هدية كراهية لا بد منها.
أين ستقيمون؟ يجيب العائدون: لا يهم، سنجد ما يأوينا، نصف غرفة، قبواً، سقفاً باطونياً.هنا، في جنوب الجنوب، حيث لا كهرباء ولا ماء ولا أي شكل من أشكال البنية التحتية أو الخدمات، ولا اتصالات أو إنترنت، لا مقومات للحياة ولا طرق صالحة، عاد السكان، كإنما يصارعون قوة اقتلاع أو كأنهم يصرون على معايشة مأساتهم والانغماس فيها بلا هروب. فشعب الشهداء (إذا صح التعبير)، لم يعد يرى تكرارية الحرب والتدمير والموت شأناً يُدرك في السياسة. الرجل السبعيني الواقف بين صحبه، يقول: "ربنا سيكافئنا بأحداث تغيّر الكون".ما ظنناه هو الأقصى في الخراب في ميس الجبل، يقارعه هولاً ما حلّ ببليدا، حيث تتكرر المهمة ذاتها: البحث عن الشهداء: حتى الظهر انتشلنا ثمانية جثامين. هناك مبانٍ لا تزال مفخخة، يقول رجل الدفاع المدني.
لم تكن البلدة ساحة معركة، بل عبارة عن مفرمة هائلة بالحديد والنار، بالغارات والمدافع والدبابات، تصب حممها من بعد وتحيل القرية إلى كومة من أحجار ودم وحرائق. إنه نمط جديد من الحرب، صممه الإسرائيلي بما يتناسب مع التفوق الكاسح بقوة ذخائره وكثافتها وفعاليتها التدميرية، بلا اضطرار لأي اشتباك أو التحام.وفي بليدا كما في ميس الجبل والقرى الأمامية كلها، طرأ على عمق الجنوب متغيّر من الصعب إدراك مآله الآن: انتشار الجيش هناك. كأن شبهة غربة بين الناس وهذا الوجود العسكري "اللبناني". وما بين الترحيب الخفر والريبة ندرك بعد الناس هنا في وجدانهم السياسي عن لبنان الذي يقع شمال الليطاني. يقول الضابط الذي تدل لهجته أنه من البقاع: "لا أفهم رد فعل الناس هنا على ما جرى، يتأسفون بلا أي تغيير في قناعاتهم. لا يسألون لماذا".
والبعد السوسيولوجي والأيديولوجي لالتباس هذه العلاقة، صُنع على مدى عقود. ما يدل على الصعوبة التي تنتظر "التطبيع" المأمول ما بين جنوب الليطاني وسائر لبنان.مارون الراس اختفت. قالت العائلة التي افترشت الأرض عند مدخل البلدة: "يقال أن سبعة بيوت فقط بقيت، لكن لم نرها أيضاً". في تجوالنا في كل أنحاء القرية، رأينا فقط بيتين موجودين، عند حافة البلدة من ناحية بنت جبيل. آخر ما تبقى من مارون الراس.
ما من بيوت مهدومة أو مقصوفة. البلدة ممسوحة عن بكرة أبيها، إلى حد أن أهلها قد يحسدون خراب القرى الأخرى. أرض مستوية بأكملها. مشهد مستحيل وحقيقي. وربما سيضطر أهلها إلى إجراء مسح عقاري ليتعرفوا على أراضيهم وحدودها.
هنا أيضاً، سيارات إسعاف وطواقم البحث عن المدفونين في هذه الأرض اليباب، التي مزقتها وحرثتها الجرافات الإسرائيلية وأحالتها إلى خليط موحل من بقايا كل شيء: معادن واسمنت وأتربة وبلاستيك وخشب وأقمشة وبقايا معلبات الجنود وشظايا قنابل.. خليط يتحول إلى لوحة حرب لا سابق لها، لا في ضراوة معاركها، بل في شراسة القوة العمياء والغاشمة التي نزلت كعقاب توراتي على مارون الراس ومحتها من الوجود. يقول أبو محمد: "نحن أسوأ من غزة". ويشير إلى المستوطنات ببيوتها البيضاء وأسقفها الحمراء، قائلاً بغضب: "ولا كأنه أصابها شيء".
على الأرجح، ما بين غزة وتلك المستوطنة الإسرائيلية ومارون الراس، كانت حصيلة الحرب قاهرة إلى حد لا يُطاق.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top