بدمعة حبيسة تختصر أمّ محمّد معاناتها المستمرة من سنة و4 أشهر، وسط تراكمات نتائج الحرب التي لم تنتهِ بالنسبة لها "فكلّ الصُوَر السلبية ما زالت مطبوعة في أذهاننا"، تقول في حديث لـ"المدن". لا يمنعها ذلك من الفرح بانسحاب العدوّ الإسرائيلي وما يؤشِّر إليه ذلك من اقتراب العودة إلى قريتها "الضّهَيرة"، وهنا يظهر مزيج الفرح والحزن الذي يبدو جليّاً في أحاديث النازحين التوّاقين للعودة النهائية إلى قراهم.
إلى حين العودة، يتردَّد النازحون إلى قراهم كلّما استطاعوا. يبكون ما آلت إليه بيوتهم وأراضيهم ومزروعاتهم، ثمَّ يرجعون إلى مراكز النزوح، ومنها تلك التي يشرف عليها اتحاد بلديات صور. ومن مراكز النزوح، ينتظرون إشارة الجيش اللبناني التي ستقول لهم بأن حقولهم آمنة، وحينها، يمكن بدء العودة الفعلية.
لا مكان للعيشتنتظر أمّ محمَّد لحظة البدء مجدّداً بزراعة أرضها. فهناك قبل الحرب "لم نعْتَد شراء أكلنا، بل كنّا نزرع كلّ شيء ونأكل، على عكس ما نفعله هنا في صور". الألغام التي خَلَّفها العدوّ وراءه تمنع أهالي القرى من التجوُّل بحرّيّة في أراضيهم أو ترتيبها لإعادة زراعتها "فلا نعلم أين يمكن أن تكون الألغام"، تقوم أمّ محمّد.تأخُّر العودة إلى القرى الحدودية، وتالياً تأجيل انتعاش الدورة الاقتصادية التي تعتمد بشكل أساسي على الزراعة، يعني أنَّ النازحين سيُمَدِّدون "حالة التَّعَب النفسي". هذا التعب الذي يؤرِق أمّ محمّد، يشكِّل بالنسبة إلى ابنتَيها "دافعاً لعدم زيارة القرية مرّة أخرى طالما أنّ الرّكام وآثار التخريب لا زالت في الأرض". وتلفت أمّ محمّد النظر إلى أنَّ إحدى بناتها لم تستطع البقاء في القرية طويلاً لأنها لم تحتمل رؤية الدمار والتخريب. فكلّ ما بقي من فترة ما قبل الحرب "بعض "المونة" التي كنّا نصنعها من مزروعاتنا كالزعتر، الفريك، العدس، البرغل وغيرها. لكن سَحَبناها تالفة من تحت ركام المنزل، شأنها شأن موسم الزيتون الذي سَقَطَ على الأرض وغطّاها كسجّادة في البيت"."الوضع كارثيّ، ولا إمكانية للعيش هناك، فقد نحتاج سنة على الأقلّ للعودة، وفي كل الأحوال، ليس قبل إزالة الركام والألغام. ومع ذلك، لا شيء سيعود كما كان". حتّى اللحظة، تؤكّد أمّ محمّد أنّه "لا أحد يريد تصديق ما حصل في هذه الحرب، فنحن لم نكن نتوقّع يوماً أن نصل إلى ما نحن عليه. لا نريد اليوم سوى الهروب من هذا الواقع".الحنين إلى ما كان، شعورٌ يعبِّر عنه الحاج محمّد عيسى ابن الأربعة والثمانين عاماً، والآتي من بلدة "راميا" الحدودية إلى مركز الإيواء في مدينة صور. ورغم الحنين، يُدرِك عيسى أنّ "العودة مستحيلة في هذه الظروف، فلا البيوت قابلة للسكن ولا الأرض صالحة للزراعة".يروي عيسى لـ"المدن" كيفَ تَرَكَ أرضه هارباً من القصف الإسرائيلي، وهو المزارع الذي اعتاد زراعة التبغ مذ كان طفلاً، كما يقول. راكمَ عيسى السنوات عمراً، لكنها لم تُفقده عزيمته على مواصلة الإنتاج من أرضه والعيش ممّا يزرعه، ويشير إلى أنه كان يُنتِج "حوالي 1200 كيلو من التبغ سنوياً". هذا الإنتاج مَكَّنَه من "العيش خلال فترة النزوح. وإلى اليوم، استنزفنا ما جنيناه خلال سنوات".ويتحسَّر عيسى على ما خسره هو وأولاده في هذه الحرب "تسعة منازل للعائلة دُمِّرَت بالكامل. بيك أب ومعدّات زراعية. أربع آبارٍ لتخزين المياه تم تفجيرها"، ومع ذلك، كان القرار الأوّل مع بدء الانسحاب الإسرائيلي، هو "العودة إلى القرية والسكن في كاراج (مستودع)، فذلك أفضل من السكن في مراكز الإيواء، وعلى الأقل نكون أمام أرزاقنا، لكنّنا لم نجد أثراً لأي شيء، فكلّ شيء مدمَّر، لذلك عدنا إلى صور". وفي راميا كما الضهيرة وكذلك في كل القرى الحدودية "لا مكان للعيش حالياً".
ترميم المدارسالتدمير مُمنهَج "والقصد منه عدم عودة الاهالي إلى القرى"، هكذا تفسِّر زينب مهدي ما فعله العدوّ بالأراضي الزراعية، وليس فقط بالمنازل. مهدي النازحة من الناقورة لم تجد منزلها "ولا شيء بقي على حاله".ومع أنّ الواقع في القرى الحدودية صعب، ترى مهدي خلال حديث لـ"المدن"، أنّه "لا يمكن المكوث طويلاً بعيداً من القرى. فالعدوّ انسحب والناس تريد العودة". لكن ماذا عن مقوِّمات العيش؟. تقول أنّه "في بعض القرى لا يزال هناك مدارس أو مبانٍ يمكن ترميمها والعيش فيها كما نعيش اليوم في مراكز النزوح، لكن على الأقل يعرف المرء أنّه في قريته، يمكن الوصول إلى أرضه بسرعة، ويمكن البدء بترتيبها أو فعل أيّ شيء طالما أنّه موجود هناك، على عكس البقاء بعيداً، فالبُعد قلِّل العزيمة على العودة".احتمالات العودة إلى مراكز إيواء في القرى "مؤجَّل إلى نحو شهرين من الآن، أوّلاً بسبب اقتراب شهر رمضان (في آذار) واستحالة المكوث في القرى، وثانياً بسبب الطقس البارد في معظم القرى الحدودية. ولذلك، فالانتظار لنحو شهرين، يعطي الناس فرصة العودة في ظل طقس دافىء".بانتظار العودة، تواصل مهدي العمل في المشروع الزراعي الذي أقيم على الأرض التابعة لمهنية صور، والهادف إلى تمكين النساء النازحات من الزراعة والاعتماد على أنفسهنّ خلال فترة الحرب. (راجع المدن)وتعمل مهدي حالياً في "قطاف الموسم الشتويّ الذي زرعته النسوة اللاتي بقينَ في مركز الإيواء خلال تصعيد الاعتدات الإسرائيلي (أيلول 2024)". علماً أنّ مهدي ساهمت في المشروع منذ انطلاقه، لكنها تركت المركز في أيلول وعادت إليه بعد وقف إطلاق النار في تشرين الثاني الماضي.الخيارات ليست سهلة أمام أبناء القرى الحدودية. لا إمكانية للبقاء في قراهم راهناً، وآليات إعادة الإعمار ليست مطروحة بشكل واضح حالياً، فيما استغلال الأراضي للزراعة أمر مستحيل. وعليه، هُم عالقون بين فرحة منقوصة وحزن عميم.