تشدّ الطفلة براء الأحمد بأصابعها الصغيرة على صورة تذكاريّة لها. صورة التقطت لها ولشقيقها إبراهيم منذ سنوات. آنذاك، لم يكن يتجاوز عمرها الثلاث سنوات. تضحك وتقول: "وجدت هذه الصورة فقط، ألعابي اختفت، لم أجد أي شيء في منزلي، هذه الذكرى الوحيدة المتبقية، الله بيعوض". لحظات قليلة حتى تتبدل معالم وجهها، تغرق عيونها بالدموع وتقول: "كنت أتمنى أن أنام اليوم على سريري وفي غرفتي، المنزل متضرر وغير صالح للسكن، سنعود إلى البقاع".ذكريات تحت الردمعادت عائلة محمد الأحمد اليوم إلى بلدة الوزاني، بعد نزوح دام لأشهر في البقاع. تفقدت ما تبقى من منزلها، ثم عادت أدراجها مجدداً إلى حيث نزحت. فالبيت لم يعد صالحًا للسكن. تقول الوالدة في حديثها لـ"المدن" وتضيف "فوجئ أطفالي بالدمار، صرخوا كثيرًا وبكوا، بحثت طفلتي الصغرى بيسان عن أغراضها، فلم تجد سوى بعض القصص الصغيرة وأقلام تلوين. عاش أطفالي اليوم تجربة قاسية.. سنعود للبقاع". تمسك بيسان بلهفة شهادتها المدرسية، وأقلام التلوين، هذا كل ما تبقى من أغراضها الشخصية.
أمام المدخل الرئيسي لبلدة الوزاني، ركنت عشرات العائلات سياراتها، ودخلت سيرًا على الأقدام. عناصر الجيش اللبناني عملت لساعات على فتح الطرقات، وإزالة السواتر الترابية التي كانت قد وضعت سابقًا لمنع الأهالي من الدخول بسبب تواجد القوات الإسرائيليّة.
اجتاز الأهالي مئات الأمتار للوصول إلى بيوتهم. أمسكوا بأيدي أطفالهم وهم يرددون "عدنا إلى البيت، عدنا إلى البيت". يهرولون، وكأنهم يتسابقون مع الوقت، يريدون الاطمئنان على منازلهم. هل هي صامدة بعد أشهر من القصف الإسرائيليّ المتواصل؟ أما أنها سُويت بالأرض؟ هل سيعودون للبلدة؟ هل ستقصف بلدتهم مرة أخرى؟ أسئلة صامتة تدور في رؤوس أبناء البلدة، يجيبون عليها بصوت مرتفع، فيقولون: "أطفالنا أحياء..سنعيد بناء منازلنا..". وفي الطريق المؤدي إلى داخل الأحياء السكنية، فخخ الجيش الإسرائيليّ أحد الأبواب الحديدية بمواد متفجرة، فتجمع حولها الأهالي، وتمكن الجيش اللبنانيّ من تفكيكها. وعلى الأرض الكثير من الأسلاك الشائكة التي خلفتها القوات الإسرائيليّة وربطت فيها المتفجرات، كما خلفت فوق ركام المنازل لوحات تحمل العلم الإسرائيليّ. العودة إلى الدارتجمهر أهالي البلدة وسط الساحة. عانقوا بعضهم بالدموع. اخترق الحزن قلوبهم. كان حزنًا جماعيًا. جلسوا فوق ركام المنازل، فتشوا عن بعض الذكريات ورشوا الورود والأرز على الجيش اللبنانيّ، واستقبلوه بالزغاريد.
تدنو سيدة من عنصر في الجيش اللبنانيّ، تقبّله وتضمّه إلى صدرها وتشدّ عليه. وتهمس قائلة: "ضلّوا معنا وحدنا". استبشر الأهالي خيراً بدخول الجيش، رغم الألم الذي ألم بهم. وهو حال الأهالي في كل القرى الجنوبيّة التوّاقة إلى بسط سلطة الجيش اللبنانيّ. شكوى أهل الجنوب واحدة، إعادة إعمار بيوتهم، وسنوات مقبلة من الأمان، بعيدًا عن هدير الطائرات الحربية، والقصف العشوائي. تشابهت شهادات أهالي القرى الحدودية، عبارة واحدة يتردد صداها مع العودة: "تعبنا..نستحق الراحة". تدمير البلدةدُمّرت بلدة الوزاني بشكل شبه كامل، باستثناء مجموعة من البيوت عند الأطراف، لم تقصف لكنها تصدعت ولم تعد صالحة للسكن. يتحدث رئيس بلدية الوزاني، أحمد المحمد إلى "المدن" عن حجم "الدمار الذي طاول البلدة بأكملها نظرًا لصغر حجمها. ففي هذه البلدة، لا يتخطى عدد المنازل الـ110، وكإحصاء أوليّ تبيّن وجود 85 وحدة سكنية سويت بالأرض". ويتابع: "وعلى الرغم من ذلك، يرفض الأهالي ترك البلدة، يريدون نصب الخيم البلاستيكية بالقرب من منازلهم، لكن علينا تأمين المياه وإعادة التيار الكهربائي وبعض الخدمات الأساسيّة ليتمكنوا من الرجوع".
تكتسب هذه البلدة أهمية كبرى بالنظر إلى موقعها الحساس. تقع في مثلث فلسطين المحتلة- سوريا الجولان- لبنان، وعلى ضفاف نهر الوزاني الفاصل بينها وبين قرية الغجر اللبنانيّة المحتلة بشطريها اللبناني والسوريّ. وخلال العدوان الإسرائيليّ استهدفت الصواريخ الإسرائيليّة الحقول والبساتين والمناطق الزراعيّة، فالأراضي الزراعية تبعد عن فلسطين المحتلة حوالى 50 مترًا فقط. كما استهدفوا عدداً من أبناء البلدة ورعاة المواشي.
عودة أهالي الوزاني إلى حياتهم السابقة يلزمها الكثير، إعادة إعمار ما تهدم، تأمين مستلزمات العيش من ماء وكهرباء، وإعادة تعبيد الطرق". فرحتهم بالعودة لم تمنع الحزن على تعب العمر، والخوف جراء الكابوس الذي سلب منهم الأمان والطمأنينة، لكن الأمل باق في النفوس رغم المعاناة التي تختزن قلوب الجنوبيين، ويتعايشون معها فوق الركام.