جزيل الشكر للصديقة العزيزة التي أهدتني كتاب "الرسالة" للكاتب الإفريقي الأميركي تا – نهيسي كوتز، المصنف بين أكثر الكُتّاب بيعاً للكتب بحسب "نيويورك تايمز"، لأنها تتيح الفرصة للتعرف على كاتب يشق طريق الشهرة في المشهد الثقافي الأميركي، رغم مواقفه المعلنة والداعمة للقضية الفلسطينية و للعدالة الإجتماعية. فلا غرو أن نجده في العديد من القنوات واليوتيوب، معلقاً على قضايا العنصرية والنظرية النقدية المرتبطة بها، ومندداً بالمذابح المرتكبة في غزة وأفريقيا.
الظرف المحيط بدافع تأليف هذا الكتاب يذكر بما سمعته، وعلى ذمة الراوي، بأن أحد أساتذة جامعة آن آربر- ميشيغان نجح كعضو في مجلس المدينة البلدي بعدما ترشح لهذا المنصب كتمرين تطبيقي لمقرر يدّرسه عن كيفية خوض الإنتخابات، وهذا يشبه ما حدث مع الكاتب من ناحية التطبيق العملي للمقرر أو المادة المفترض تدريسها. فخلال ورشة تعليم الكتابة الإبداعية، وعد طلابه بمقالة بحثية عن "الكتابة" على أن تُقدم لهم خلال شهرين، لكن بعد سنتين أضحت المقالة كتاباً، صدر بعنوان"الرسالة "عن دار "ون وورد"، يتحدث فيه الكاتب عن العوامل والظروف الشخصية والعامة التي جعلت منه كاتباً. الجدير بالذكر أن الكاتب كان من محرري مجلة "ذي أتلانتيك" الشهرية المرموقة، قبل إنتقاله لجامعة هاورد لتعليم الكتابة الإبداعية، وإعتبرته الروائية توني موريس، لأسلوبه المميز، خليفة جيمس بولدوين، أحد أشهر الكتّاب تأثيراً في القرن العشرين.
الكتاب مؤلف من 230 صفحة من الحجم المتوسط.، وهو عبارة عن أربعة فصول، الأول يتناول نشأته، والثاني يتحدث عن رحلته إلى أفريقيا، والثالث عن منع كتبه في ساوث كارولاينا، أما الرابع وهو ما يعادل نصف الكتاب فيغطي زيارته لفلسطين قبل أسابيع من حرب 7 أكتوبر. وسأحاول في منشورات مقبلة تغطية الثلاثة المتبقية.
يقول الكاتب انه "ولد في بيت من الكلمات والمقالات والكتب والموسيقى"، والده أصبح ناشراً بعد تعثره في أعمال عديدة، وكان من أعضاء منظمة "الفهود السود"، ووالدته مدرّسة واهتمامهما بتنشئته كان شغلهما الشاغل، إهتما بتعليمه منذ كان يحبو لإغناء وتنمية ملكة الكتابة والفكر النقدي لديه، والكاتب مثل غالبية الأفارقة الأميركيين الذين لم يتصالحوا مع حاضرهم ومع أربعة قرون من إستعبادهم، لأنهم ما زالوا يشعرون بالإستلاب والغبن، رغم صدور القوانين المدنية التي تمنع التمييز العنصري العام 1965، خصوصاً أن نظرية نقد العنصرية الحديثة التي نشأت العام 1989، ترى أن البناء المؤسساتي والقوانين المرعية الإجراء المفترض إصلاحها لم تكن بفعالية كافية، مثلاً، للحد من استمرار التمييز العنصري في الإسكان، والتعليم، وإختيار المحلفين في المحاكم أو من ناحية تعداد سجن وتوقيف حشود من الأقليات في السجون... الإصلاحات إذاً لم تلحظ سوى الحالة الفردية للمواطن، أما النقد الموجه لهذه النظرية فهو افتقارها لخريطة للعمل السياسي.
إدراك الكاتب المبكر لقضايا الأفارقة الأميركيين والأقليات، دفعه لخوض غمار التفتيش عن كيفية تَكَوُن هويته وبالتالي عن أصله وعن علاقته بأفريقيا وحضارتها وشعوبها، ولإعتقاده الراسخ بأهمية دور الكُتاب ومحترفي الكتابة الإبداعية في المجتمع، نتيجة ارتباط اللغة بدلالة سياسية تساعد على فهم المشاكل المعقدة المحيطة بهم.
تا–نهيسي كوتز هو اسم غريب لوجود وصلة (-) وتبدو مقصودة، يعتبرها الكاتب مصطنعة تهدف لاستحضار الحضارة الإفريقية. فهو إسم نوبي يرمز إلى أهمية بلاد النوبة، أو بلاد السود، بالنسبة للحضارة الإنسانية، وهي الأقلية التي شغلت المنطقة الجنوبية في مصر والشمالية في السودان وتم تهجير بعضها عند بناء السد العالي. والدته مدرّسة ووالده يعمل في نشر الأعمال الأدبية للأفارقة الأميركيين. منذ طفولته أبدى تا- نهيسي كوتز براعة في الكتابة بعدما أولاه والداه رعاية خاصة لتطوير ملكة الكتابة لديه ولإغناء مخزونه اللغوي.
إضافة لما سبق في الفصل الأول، ينطلق الكاتب لإستعراض نظرية المفكر والعالم الأنثروبولوجي جاشوا نات، والتي وضعت الأسس الفكرية والعلمية لتسويق دونية الأفارقة وبالتالي لإختراع مفهوم العرق، والقول بخطورة الإختلاط معهم لإختلاف أصلهم ولكونهم شبه بني آدميين. فهذه البلاد الفسيحة الغنية ومتعددة الأعراق والحاجة لبنائها يستوجب استعبادهم، هذا الفكر انتشر لدى العامة، مثل التاجر والحرفي والمدرس واللورد ورجال الكونغرس والدين، وتأبيد الإستعباد أصبح من ضرورات البنية الإقتصادية الرأسمالية ناهضة ومن المعتقدات الدينية والثقافية في المجتمع.
بعد غزو نابليون العام 1799 لمصر وكشفه عن قدم وعظمة الحضارة الفرعونية مقارنة بحضارتي الروم والإغريق، وإنتشار هذه الأخبار التي إجتاحت أوروبا ووصلت إلى أميركا، عندما كانت العبودية في أوجها قبل الحرب الأهلية، دفع العالِمَين جاشوا نات وغليدون لكتابة أطروحتهما "أنواع الإنسان" كمحاولة لتبريرالإستعباد ولفصل الحضارة الفرعونية عن إفريقيا والأفارقة.
ولادة الكاتب في عصر التبريرات عندما كان السود يكتبون تاريخهم ويتعرفون على وجودهم، وحمله لهذا الاسم وكأنه ولد ليكون من سلالة الملوك لا العبيد، يشرح سبب تعظيم وتفخيم الحضارة الفرعونية، للتسلح في مواجهة العنصريين. هنا يوضح الكاتب بأن اسمه الذي يسبب له العديد من المشاكل في التهجئة واللفظ والإملاء، هو لمكان غير هذا المكان ولعالم اختفى، وعلى مضض أيضاً يُفرض عليّه ترداد قصة مختلفة، وهذا ما لا يستطيع هضمه. يعتقد أيضاً بأن كرامة الإنسان الآنية هي في فكره وممارسته وليست في الصروح الحجرية و"سنخسر إذا مارسنا واعتقدنا العكس". أعتقد أن ما سبق كفكرة تعظيم الماضي والوقوف عنده، تفسر جذور الفكر العنصري السائد أيضاً لدى شريحة من الأفارقة الأميركيين.
رحلته لمعرفة الذات التي دفعت به للسفر إلى داكار-السنغال، ستكون موضوع البوست المقبل إذا سمحت الظروف. (*) مدونة نشرها عون جابر، أستاذ اللغة العربية في جامعة واين ستيت في ديترويت-ميشيغن، في صفحته الفايسبوكية.