كان المؤرخ الراحل كمال الصليبي (1929-2012) مولعاً بقراءة الروايات على أشكالها وأنواعها. روايات لبنانية وعربية وأجنبية ومترجمة. لكن إذا صدر كتاب للروائي اللبناني، ربيع جابر، فهذا يعني أن يكون الكتاب على طاولته في اليوم التالي. اهتم الصليبي بإنتاج جابر الروائي، وكتب مراجعتين لاثنتين من رواياته. كانت الأولى عن ثلاثيته "بيروت مدينة العالم" (2003-2007) وأصدرها ضمن كتاب بعنوان "بيروت والزمن" (نلسن 2009). والمراجعة الثانية عن روايته "يوسف الانكليزي". ولطالما ردّد الصليبي أن فكرة التقمص في هذا الكتاب غدت رمزية إلى حد أنها أصبحت ساعة يد. قدم الصليبي مراجعته الثانية في مؤتمر عن الدروز في جامعة أوكسفورد 2009. وفي الفقرة التي ختم بها الصليبي مراجعته، قال: "إن رواية يوسف الانكليزي لربيع جابر فعل حنين إلى الماضي يمكن أن يقرأه المرء لمجرد المتعة. إنها قصة مشوقة مع أنها تتسم ببعض الحزن، يرويها راوية بالفطرة. ويمكن قراءتها أيضاً كدراسة في التعقيدات الدقيقة للطبيعة الاجتماعية للجبل وللدروز والآخرين الذين سكنوا ذلك الجبل في الماضي، وقد صيغت بإحكام على شاكلة حكايات وصور معبرة". لكن ما سر هذا الاعجاب؟
عدا أن غريزة جابر الروائية قوية ونادراً ما تخطىء، إلا أن آعجاب الصليبي مرده البعد التاريخي النابص بالحياة في روايات جابر. درس ربيع جابر التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت على يد المؤرخ عبد الرحيم أبوحسين وهو تلميذ كمال الصليبي.
صحيح أن هناك التاريخ، لكن هناك أيضاً التصور والإقناع وهناك المخيلة الطليقة. وهذه صفات يشترك فيها الروائي والمؤرخ. لا يخفي كمال الصليبي في أي حال إعجابه بشخصية عبد الجواد أحمد البارودي، التي خلقها جابر من العدم ليروي من خلالها تاريخ بيروت في عصره وعصر أولاده وأحفاده. يشير الصليبي إلى جملة أسرته وأدهشته في رواية "بيروت مدينة العالم": "واندفع الكل للبناء. الكل يريد أن يبني". كان ذلك بعد سقوط سور بيروت نتيجة للقصف الإنكليزي النمسوي العثماني لبيروت في العام 1840.في صباح ذلك الأحد، وفي منزله المطل على الجامعة الأميركية في رأس بيروت، كان الصليبي يتحدّث أمام زواره عن مدى إعجابه بطريقة تعامل جابر مع الزمن، مردداً ما كتبه جابر في كتابه "سيد العتمة" 1992 على لسان الصوفية: "ألف عام ماضية في الف عام واردة هوذا الوقت ولا تغرنك الأشباح"... وبأن ربيع جابر جعل من التاريخ قصصاً ساحرة.أخيراً، ماذا يجمع مخيلة الروائي بمخيلة المؤرخ؟ ماذا يجمع كمال الصليبي بربيع جابر؟
يكتب الصليبي في "بيروت والزمن" أن مخيلة المؤرخ ملجومة بالانضباط العلمي. أما مخيلة الروائي فهي منشرحة طليقة العنان، ولعلها الأجزل بلاغة وتعبيراً. والسؤال: هل كان الصليبي يحلم بأن يكون روائياً؟ وهل كان جابر يحلم بأن يكون مؤرخاً؟ لقد تمثل جابر بالمؤرخ، راسماً صورة مقنعة عن طريق تعقب آثاره وأخباره ومصادره. أما الصليبي، فإذا قرأنا الصفحات الستين الأولى من مذكراته "طائر على سنديانة"، لرأينا روائياً من طراز رفيع يتابع حواره الأثير مع التاريخ.