هل تتذكّرون اسم توم توكفار، مخرج أفلام "لولا تركض" (1998) و"جنّة" (2002) و"العطر: قصّة قاتل" (2006)، الذي بدا معه أن عصراً ثانياً من "السينما الألمانية الجديدة" قد بدأ، في مفتتح الألفية الجديدة، بعد سقوط الجدار، والعصر السابق العظيم جداً، لفاسبيندر، وهرتسوغ، وفيندرز، إلخ؟منذ ما يقرب من عشر سنوات، غاب المخرج الألماني عن الشاشة الكبيرة. وبعد الفيلم المتواضع "هولوغرام للملك" (2016)، كرّس نفسه بنجاحٍ كمشارك في إنشاء المسلسل التلفزيوني الشهير "بابليون برلين" (2017-2022)، أحد الإنتاجات النادرة القيّمة التي قدّمها السينمائي الألماني، في السنوات الأخيرة، والذي بات شبه مفقود على المستوى الدولي. لا بد أن فكرة اختيار فيلم توكفار الجديد لافتتاح الدورة الـ75 لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي" (13-23 شباط/فبراير الجاري) بدت فكرةً عظيمة، أو كما يُقال "كريمة على الكعكة"، بالنسبة للأميركية تريشيا تاتل، التي خلفت الإيطالي كارلو شاتريان على رأس مهرجان برلين السينمائي هذا العام. من ناحية، هي عودة سينمائية لمثل هذا المؤلف المهمّ، والأكثر من ذلك، أنه لم يحدث منذ سنوات أن افُتتح المهرجان الألماني بفيلمٍ محلي. لسوء الحظ، حتى انطلاقاً من هذه المقدمة أو الوعد العظيم، لم يكن الاقتراح الفكرة الأفضل، بل على العكس تماماً.في فيلمه، الذي يحمل عنوان "النور"، يراوح توكفار بين أمزجة وأطوار سينمائية مختلفة ليقدّم صورة سوداوية وجنائزية لمجتمعه المنقسم والمتداعي. من بين شقوقه تظهر امرأة غامضة عربية، رائعة لكنها أيضاً مزعجة، تحدّق في ضوء وامض داخل بيت برليني وكأنه نوع من الانتقال الميتافيزيقي. يأتي بعد ذلك تقديم العديد من الشخصيات، وببطء، نفهم أنهم جميعاً ينتمون إلى العائلة نفسها. ليست عائلة هادئة عشوائية، بل، للأسف، "عائلة ألمانية مختلة" كلاسيكية - للمفارقة، تحمل لقب الملائكة Engels، وهم ملائكة بلا شك، لكن الصحيح أيضاً أن أشهر دراسة عن العائلة كتبها ألماني بعنوان "العائلة المقدسة" هو فريدريك إنجلز، ويعود تاريخها إلى العام 1843 - مؤلفّة على النحو التالي: زوجان، تيم (لارس إيدنجر) وزوجته ميلينا (نيكوليت كريبتس)، من الواضح أنهما في أزمة، مع توأم مراهق، فريدا (إلكي بيسندورفر) وجون (يوليوس غاوزا) وهما مشكلتان بالقدر نفسه. علاوة على ذلك، يعيش معهما أيضاً ابن ميلينا، الكيني، ديو (إلياس إلدريدج)، من علاقة أخرى. يبدو منزلهم وكأنه ميناء بحري، حيث يعيش الجميع، مسلّحين نظرياً بأفضل النوايا الممكنة، مع الكثير من القيم المثالية والديموقراطية والتقدّمية، منفصلين عن بعضهم البعض. يتقاطع مسارهم بالصدفة أكثر من أي سبب آخر، وكلّ منهم منغلق على نفسه في قوقعته، بمشاكله العاطفية، أو مع محلّل نفسي، أو دراما مراهقة صغيرة، وشكوك، وعدم يقين، ومشاكل متعلقة بالعمل من مختلف الأنواع والشدّة. باختصار، هناك خلافات كبيرة، عندما لا يتجاهل كل منهما الآخر تماماً، بينما في برلين تهطل الأمطار بغزارة وكأنها ذروة الرياح الموسمية.هذا العيش المشترك التعيس يفسده وصول فرح (تالا الدين، أداء جيّد)، مدبّرة منزل سورية غامضة، هي في الواقع المرأة التي ظهرت في بداية الفيلم والتي نكتشف تدريجياً مصيرها الذي قادها إلى منفاها الألماني. وجودها يشكّل حافزاً قوياً للصعوبات النفسية والإيديولوجية التي تواجهها عائلة إنجلز، لكنه أيضاً نتيجة لإرث دراما الهجرة الأعظم. لكن ماذا تخفي هذه المرأة حقاً؟
كما قد تكون خمّنت من هذه الحبكة القصيرة، لا يتعامل توكفار بسهولة مع مواضيع مهمّة مثل الضمير الفردي لكل شخص تجاه المجتمع، والاغتراب والتعقيد الشديد لديناميكيات الأسرة في المجتمعات الغنية اليوم، وأخيراً وليس آخراً سياسة الهجرة، التي من المحتمل أن تخضع للفحص والتشكيك مرة أخرى في ألمانيا قريباً مع الانتخابات المبكرة التي ستُعقد في اليوم التالي مباشرة لختام مهرجان برلين.تدور أحداث القصّة حول امرأة فرّت من سوريا لتعمل مساعدة منزلية في منزل فاخر لأسرة برجوازية مثقّفة برلينية تقّطعت بها السبل. ومثل ماري بوبينز، تقلب حياة هذه الأسرة رأساً على عقب. الواقع، أنه في اللحظة التاريخية الحالية، هناك ما يشبه نوعاً سينمائياً ألمانياً يخصّ قصص وسرديات اللاجئين، تماماً كما وُجدت ولا تزال قصص الهولوكوست. على خلفية الإبادة الجماعية وقصص المعاناة العالمية الحاضرة والمتكاثرة، يمكن بالطبع أن نروي قصصاً إنسانية أيضاً. لكن هنا يظلّ اللاجئون مجرد حشود ولا يتم التعامل معهم بشكل فردي. يُعاملون ككتلة تخدم أفكاراً ورؤية سينمائي ساخطة على المجتمع الألماني الغارق في وحوله. يخبرنا توكفار عن أزمة المناخ، والصراع بين الأجيال، والعولمة، والمجتمع العجوز، والتطرّف، والهجرة. لا تستطيع القصة تحمّل هذا الضغط الزائد. يعترف توكفار نفسه بأنه تعمّد أن تحوي الحبكة أكثر من اللازم، لكن سؤالاً يطرح نفسه: هل وجد شكلاً يحوّلها إلى تجربة تستحق المشاهدة؟ الحقيقة، لا. فالحوارات رتيبة ومكتنزة بما يفيض على قدرتها تبيان وتحليل ما يبغي المخرج نقده وشجبه، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وروحياً.يمكن استشعار أسلوبيةً ما، وراء هذه الوفرة من الأحداث المعاصرة، فالحزمة الكاملة تترك المتفرّج في حيرة نسبية ومدوّخة. لكن يمكن قول الشيء نفسه تماماً عن الحاضر، وخصوصاً الراهن الألماني، العاصف بأزمات وتغيّرات سياسية وميل نحو التطرّف اليميني، فضلاً طبعاً عن العماء الأخلاقي المعهود ألمانياً حين يتعلّق الأمر بالدولة الصهيونية وجرائمها العديدة. هذا التطلّب المفرط، ليس باستخدام الحيل المعتادة في الدراما لتلميع هذه الفوضى وإدخالها في مشدٍّ سينمائي، بل بتصويرها هكذا ببساطة كما قد تكون في ذهن المخرج، لا ينتج فيلماً متماسكاً. في بعض المَشاهد، يؤدّي حتى إلى فيلم سيئ. لكن على الأقل هناك شخص ما يُنزل سرواله باستمرار. بالطبع، هو لارس إيدنجر، الحريص دوماً على التباهي، والذي يخلع سرواله مراتعديدة في الفيلم. "ألمانيا محطّمة، تخدش نفسها بشدّة ولا تبدو جيّدة وهي عارية"، هذا ما يستنتجه المتفرّج من هذه المشاهد.إلى ذلك، لا يمكن القول إن فيلم "النور" لا يتمتّع بمعدّل عالٍ من تناول الأحداث الجارية، لكن المشكلة تنشأ من الطريقة التي يُسرد بها هذا كله، حيث تُخلط عناصر واقعية بأخرى رمزية، وحجج محمومة بلحظات أشبه بالأحلام أو باليه موسيقي بطريقة متضاربة، وبنهايةٍ تترك المتفرّج في حيرة على أقل تقدير. فضلاً عن نيّة تصوير معضلات وتناقضات البرجوازية الديموقراطية الألمانية في نوع من "الإماتة الذاتية" المازوخية تماماً. في هذا الفيلم، يبدو أن الزوجين البالغين يمثلان الغباء المطلق وغير المنضبط لليسار الألماني بأوهامه وتنازلاته، في حين يبدو الناجون الوحيدون من هذا الطوفان العالمي هم الشباب، خصوصاً الإبن الكيني البريء لميلينا الذي ليس صدفةً أن اسمه الله/الربّ.بالنظر إلى موهبة الممثلين وأدائهم، لا يبدو أن هناك أي شيء آخر يمكن إنقاذه في هذه "الفوضى السيئة" التي صوّرها توكفار بين مواقع جميلة في برلين ونيروبي (كان المخرج الألماني منخرطًا في برامج إنتاج لتطوير السينما الأفريقية، لا سيما كينيا، منذ سنوات حتى الآن) مع أطوال زائدة (162 دقيقة!)، حيث نجد قدرته المعتادة على مزج السرد البصري بالعمق العاطفي للمواقف، إنما ليس بأفضل طريقة.