استطاعت قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، منذ نشأتها في تشرين الأول/أكتوبر 2015، وبإشراف مباشر من الولايات المتحدة، أن تحجز موطىء قدم لها على الجغرافيا السورية، شأنها في ذلك شأن سواها من قوى الأمر الواقع، وذلك على أعقاب استفحال النفوذ الدولي بأشكاله المختلفة في سوريا. وبهذه الخطوة يكون حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd)، قد تحوّل من فرع لحزب العمال الكردستاني الذي لا يزال مُدرجاً على قوائم الإرهاب عالمياً، إلى قوّة تدّعي تجذّرها سوريّاً، تارةً بزيّ إيديولوجيا "الأمة الديمقراطية" وفقاً لصياغاتها الأوجلانية، وتارة باسم القضية الكردية، إلّا أنها في كلتا الحالتين تقع في تناقضٍ كبير يعود بها إلى نقطة الصفر، إذ إن "أفكار أخوّة الشعوب" والديمقراطية العابرة للأمم، هو شعار في الأصل يتناقض مع فكرة القومية الكردية التي يقف وراءها من يطالب بكيان سياسي مستقل للأكراد، باعتبارهم أصحاب وطن سليب أو متشظي بين دول أربع هي سوريا والعراق وإيران وتركيا.
ربما كان من نتيجة هذا التناقض، هي الهشاشة والارتباك في الخطاب السياسي لقسد وذراعها السياسي (مسد)، من جهة، وكذلك تبديل المواقع وإعادة إنتاج الشعارات من جهة أخرى، فما الذي تريده قسد، ومن خلفها حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا؟
ما من شك أن الحزب الاتحاد قد أطل على المشهد السياسي السوري عبر بوابة الثورة السورية عام 2011، إذ كان قبل ذاك التاريخ مجرّد حزب لا يخرج نشاطه عن دائرة المراقبة للمخابرات السورية، ولا يستطيع القيام بأي مبادرة مهما كانت محدودة الحجم، إلّا بتوجيه الجهات الأمنية التابعة لنظام دمشق، وحتى حين انطلقت الثورة السورية كانت إطلالته على المشهد السوري محصورةً بردع الأكراد المنتفضين عن نظام الأسد، ومنع تيار الثورة من الامتداد والانتشار في المناطق ذات الأغلبية الكردية، ولعل هذا المسعى وجد دعماً واضحاً من جهة نظام دمشق الذي كان بحاجة إلى هذا الدور، كحاجته إلى جميع الميليشيات الطائفية الدخيلة التي آزرت قوات الأسد في قمع المظاهرات السلمية آنذاك. وقد تطوّر هذا الموقف في أواسط العام 2012، حين بدأ النظام بالانكفاء العسكري نحو مراكز المدن الكبرى وسحب قواته من عدد كبير من البلدات والقرى والمدن السورية، كما قام بتسليم معظم عتاده العسكري لعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي في أماكن تموضعها، وبهذا استطاع الحزب أن يتموضع عسكرياً في أماكن عديدة من سوريا، وخاصة المناطق ذات التواجد السكاني الكردي.
لكن الخطوة الأهم في تكوين قسد، تجسّدت بمبادرة واشنطن نحو إنشاء قوة عسكرية لمحاربة تنظيم داعش، ووجدت في الأذرع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي ضالتها من جهة أنه يمكن أن يكون كياناً عسكرياً قابلاً للتوظيف، دون أن يكون له أي شعور بالالتزام فيما يخص القضية السورية. وكانت الحرب على داعش في خريف 2014، إيذاناً بتحوّل قسد إلى كيان أمر واقع يبسط نفوذه على جميع المناطق والبلدات التي يتم طرد داعش منها، الأمر الذي جعل من الإدارة الذاتية، القوة التي تبسط سيطرتها على المناطق ذات الغلة الاقتصادية الأوفر في سوريا، وقد حاولت قسد استثمار أوراق قوتها تلك في مفاوضات مباشرة مع نظام الأسد، بغية الحصول من سلطة دمشق على اعتراف فعلي باستقلالية الإدارة الذاتية، ولو تحقق ذلك لما كان لقسد أي مصلحة باستمرار ثورة السوريين، إلّا أن العقم الذي كان السمة الأبرز لنظام دمشق، لم يُتح لقسد الحصول على أي امتياز، ليس لحرص الأسد على البلاد السورية، بل لسمة متأصلة ببنية النظام البائد والمتمثلة بعدم تقديم أي تنازل، ليس للأكراد فحسب بل لجميع السوريين، وكذلك لقناعته الراسخة بأنه مالك العقار السوري الوحيد الذي يرفض مبدأ الشراكة في الحكم مع أي كان.
جزء كبير من اعتداد قسد بقوّتها، يكمن في رهانها الذي كان قائماً على استمرار بقاء الأسد في الحكم، كنظام ضعيف لا يقوى على مجابهتها في ظل استمرار المظلة الأميركية بحمايتها، وكذلك في ظل ممانعة أميركية لأي هجوم تركي من شأنه الإجهاز عليها، ولكن بسقوط نظام الأسد وانتصار ثورة السوريين فقد تغيّرت المعادلة. ولعل من أبرز سمات هذا التغيير هو الإجماع العربي والدولي على وحدة الأرض السورية وانصهار جميع القوى في بوتقة الدولة السورية الجديدة، الأمر الذي يجعل خيار قسد الوحيد هو التوجه نحو القيادة الجديدة في دمشق. إلّا أن هذا التوجّه والرغبة بالاندماج في الدولة السورية لا يزال مقروناً بتطلعات قسد القائمة على الاستقلال الذاتي والاحتفاظ بكافة المكاسب والامتيازات السابقة، أي لن يكون هذا الاندماج - وفقاً لما تريده قسد – سوى شرعنة وحماية وتحصين لمكتسباتها السابقة، في حين ترى حكومة دمشق أن انضمام قسد إلى بنية الدولة السورية ينبغي أن يكون كانضمام بقية الفصائل العسكرية وانصهارها في وزارة الدفاع، ولعل هذا التباعد في وجهتي النظر أو المواقف يمكن أن يتحوّل إلى صدام في لحظة يدرك فيها الطرفان أن قسماً كبيراً من الحل ما تزاله تختزله فوهات البنادق، إلّا أن الطرفين يتفقان في الوقت ذاته، على عدم الاستعجال، طالما أن الموقف الحاسم لإدارة ترامب ممّا يجري في سوريا لم يتبلور بعد، وفي هذه الحال لا يرى كلا الطرفين أي بأس من إبداء أمارات المرونة وتفضيل سبل الحوار والتفاوض.
يمكن القول إن منظمة المجتمع الكردستاني، والتي تسيطر على الأحزاب الكردية الأربعة، في تركيا (حزب العمال الكردستاني)، وفي سوريا (حزب الاتحاد الديمقراطي)، وفي إيران (حزب الحياة الحرة)، وفي العراق (حزب الحل الديمقراطي)، قادت أكراد سوريا خلال سنوات الثورة إلى أفق مسدود وحجمتهم وأبعدتهم عن ملعب التسوية السياسية، بل وضعتهم في مهب الرياح من خلال تحويل مناطقهم وأبناءهم الى ساحة لتصفية الحسابات مع تركيا، وإيهامهم بقيام كيان كردي مستقل.
يشاع منذ وقت طويل أن معركة خفية تجري في كواليس القيادة الكردية في شمال شرق سوريا، بين مظلوم عبدي، ومعه قادة الأكراد السوريين الأوجلانيين الوازنين، وبين جمال باييك وأزلامه في سوريا وتركيا، مدعومين من إيران، في محاولة انتزاع أكراد سوريا قرارهم من جبال قنديل وقادته، ودفع عجلة قيام مصالحة مع المجلس الوطني الكردي والأحزاب والتيارات الكردية الأخرى، ليكونوا كياناً كردياً واحداً في إطار التسوية السورية الشاملة.
فهل يفعلها مظلوم عبدي وأمثاله من أكراد سوريا؟ أم انهم ينتحرون على مذبح خدعة كبرى ويتجاوزهم الزمن؟