قبل بضعة أشهر من سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، صادف مرور 50 عاماً على "ثورة القرنفل" في البرتغال، والتي بدأت بانقلاب عسكري لمعارضي النظام داخل الجيش، سرعان ما تجاوب معه الشارع بصورة كبيرة جداً، أدت إلى وضع البرتغال على سكة التحوّل نحو الديمقراطية. تحوّلٌ واجهته تعقيدات نجمت عن المرحلة الانتقالية عقب السقوط المفاجئ للنظام، وكان قطباه، "التطهير" لنخبة النظام السابق، والأزمة الاقتصادية التي أعقبت ذلك.يختلف المشهد الانتقالي في سوريا كثيراً عن نظيره في البرتغال، قبل نصف قرن. لكن يبقى لقطبي الانتقال المتعلقين بـ"التطهير"، ومشكلات الاقتصاد، كلمة جليّة فيه. ففي ذاك البلد الأوروبي، تأثرت النخبة الاقتصادية الموالية للديكتاتورية، بعيد الثورة، جراء عملية التأميم وتدخّل الدولة، مما أدى إلى هروب الصناعيين ورجال الأعمال من البلاد. وهي حالة قد تكون معاكسة لما حدث في سوريا. لكن مخرجات هروب نخبة اقتصادية متجذّرة في نظام سابق، قد تكون واحدة. ففي البرتغال، حاول قادة الانقلاب التواصل مع أباطرة الاقتصاد السابقين، لكن حركات الإضراب والضغط النقابي والشعبي أدت لإجهاض هذه المحاولات. بل ذهب المشهد إلى أبعد من ذلك، إذ حصلت عمليات "تطهير شعبية" بحق أعضاء النخبة الاقتصادية السابقة، على صورة عمليات تخريب وعنف طال مصالحهم -وهو ما لم يحدث في سوريا، حتى الآن- لكن بعد عامين من سقوط النظام البرتغالي الاستبدادي، بدأت معالم أزمة اقتصادية تتجلى. وهو ما دفع بالنخبة الجديدة الحاكمة إلى إتباع تدابير تقشفية شديدة، واللجوء إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وسط حالة ركود، وانخفاض حاد في القيمة الحقيقية للأجور. وهي ملامح بدأت مؤشراتها الأولية، تتجلى في سوريا، اليوم. أيضاً، أدى تفاوض البرتغال على استقلال مستعمراتها السابقة، إلى عودة مئات الآلاف من البرتغاليين من تلك المستعمرات إلى بلدهم الأم، وهو ما فاقم الأزمات الاقتصادية، وأدى بعد بضع سنوات فقط، إلى موجة حنين لعهد الديكتاتورية، وانقلب المزاج الشعبي بصورة حادة، إذ تم تحميل "الديمقراطية" مسؤولية تردي الوضع المعيشي. لكن ذلك لم يعرقل التحول نحو الديمقراطية، مع التراجع عن جملة إجراءات راديكالية، أبرزها، حملات "التطهير" ضد نخبة النظام السابق، بوصفها تجاوزت الهدف المطلوب منها، وهو تفكيك مؤسسات النظام الاستبدادي.تفيد الدروس المستقاة من تجربة التحوّل إلى الديمقراطية في البرتغال، في فهم أن حملات "التطهير" ضد النخب المرتبطة بالأنظمة الاستبدادية، لا يجب أن تذهب إلى أقصاها. وإن كان لا بد منها. لكن، يجب أن تخضع لأولويات الانتقال الآمن، وتقليل الآثار السلبية لتفكك نظام سابق. في سوريا، تواجه الحكومة الانتقالية الآن، انتقادات شديدة، حيال تعاملها مع رموز من النظام السابق. وصلت هذه الانتقادات حد التظاهر في حي التضامن بجنوب العاصمة، قبل نحو أسبوع، جراء عودة أحد قادة "الدفاع الوطني" المتهمين بجرائم حرب، إلى الحي، بعد تسوية مزعومة مع السلطات. وهو ما يلقي الضوء على الأهمية الملحة لبدء النقاش المجتمعي حول أسس "العدالة الانتقالية" المطلوب اعتمادها، لتوفير انتقال آمن نحو المستقبل، بأقل قدر ممكن من الخضّات، في بلدٍ منهك إلى أقصى الحدود.قبل أيام، نشرت "رويترز"، تقريراً حول محادثات أجرتها السلطات الجديدة في دمشق، مع "أباطرة" الأعمال المقربين سابقاً من نظام الأسد. وتم الحديث عن شخصين رئيسيين، هما، محمد حمشو، وسامر فوز. ويمكن الوقوف عند عدد من الملاحظات المثيرة للانتباه، في مجمل ما ورد في التقرير الذي بدا جلياً أنه يحمل رسائل من الحكومة الانتقالية في دمشق، لأطراف داخلية وخارجية، في آن. الملاحظة الأولى، الكشف عن أن سامر فوز أيضاً، إلى جانب محمد حمشو، يحمل الجنسية التركية. وكان الكشف عن جنسية حمشو التركية، قبل سقوط النظام ببضعة أشهر، في معرض إسقاط عضويته من "مجلس الشعب"، مفاجأة للكثيرين. وقبل أسابيع، ومع تداول أنباء عن "تسوية" يعمل حمشو على تنفيذها في دمشق، مع السلطات الجديدة، تمت الإشارة إلى دعم تركي يقف خلفه. واليوم، نكتشف أيضاً، أن فوز يتمتع بخلفية "تركية". الملاحظة الثانية، هي إقرار مسؤولَين يمثلان السلطات الجديدة، بحجم النفوذ والأثر الاقتصادي لأباطرة الأعمال المقرّبين سابقاً من نظام الأسد. وأنه من غير الملائم لمصلحة البلاد الاقتصادية، أن يُطلب منهم الرحيل فحسب. وأن الحكومة الجديدة لا يمكنها تجنب التعامل معهم. وهو رأي اتفق معه خبير اقتصادي (كرم شعار)، عُرف بمناوئته طويلاً لنظام الأسد، تحدث في التقرير نفسه لـ"رويترز" أيضاً. أما الملاحظة الثالثة، فهي إشارة أحد المقرّبين من سامر فوز، إلى أنه فهم من تعاملاته مع السلطات الجديدة، أنهم يسعون لإتباع نهج "تصالحي".يثير "الحس التصالحي" مع حيتان الأعمال من عهد نظام الأسد، مخاوف كبيرة، خصوصاً لدى رجال أعمال ونخب اقتصادية لم تكن مقرّبة بالقدر نفسه من النظام السابق، أو كانت مناوئة له. ومرد ذلك أساساً يرجع إلى بعد تنافسي، وربما "ثأري"، من المنافسين السابقين الذين لم تكن المنافسة معهم عادلة في عهد النظام المخلوع. لكن جانباً آخر من مخاوف هؤلاء يشترك مع شريحة أكبر من السوريين، تخشى أن نشهد مجدداً تحالفات "فاسدة" بين حيتان أعمال وبين السلطات الجديدة، على غرار ما كان قائماً في العهد السابق، استناداً إلى خبرة "حيتان" الأسد السابقين، في نسج التحالفات "السوداء" مع المتنفّذين. جانب آخر من المخاوف يرتبط بأن تذهب تلك التحالفات إلى أبعد من ذلك، وأن تستفيد السلطات الجديدة من خبرة رجال الأعمال المقرّبين من النظام السابق، في الالتفاف على أنظمة العقوبات الغربية، التي لا يزال الكثير منها سارياً حتى الساعة على سوريا، وقد يبقى الكثير منها قائماً بالفعل، كعامل ضغط من الغرب على السلطات الجديدة. فيما قد تكون هذه الأخيرة في طريقها للبحث في سبل للتفلت من هذا الضغط. وهو ما قد يعني أننا في طريقنا لشكلٍ من أشكال الانعزال الاقتصادي مجدداً. أما أقل المخاوف جدّية، فهي انبعاث النظام السابق عبر نخبته من رجال الأعمال، على غرار "الثورات المضادة" في دول الربيع العربي.وفيما تبدو المخاوف السابقة كلها مبررة، وإن بدرجات متفاوتة، يبقى السؤال: ما هي الوسيلة الأمثل للتعامل مع "حيتان" النظام السابق، من دون آثار سلبية على الوضع الاقتصادي المتدهور أساساً؟ ألا يمكن تفهّم "التسويات" التي تجريها السلطة الجديدة مع نخب النظام السابق، بوصفها المدخل الأمثل لتفكيك شبكاته الخفية لمنع انبعاثه مجدداً، أو تقليص قدرة بعض "خلاياه" المتبقية على القيام بأعمال "تخريبية" أمنية أو حتى اقتصادية؟
العصف الدماغي على وقع السؤال الأخير تحديداً، يحيل على الأرجح، إلى إجابة بالإيجاب. لكن تبقى العلّة في انعدام شفافية السلطات الجديدة، في الإقرار بدواعي هذه "التسويات"، ومآلاتها. وهو ما يجعل الضغط الشعبي، والنخبوي المعبّر عنه في "السوشال ميديا"، أمراً مفيداً لتقييد الحرية المطلقة للسلطات الجديدة، بصورة تقلل من احتمال الانزياح نحو تحقق المخاوف ذاتها التي تولّد هذا الضغط.