قبل أن يعتلي الرئيس سعد الحريري المنبر ليخطب في الجماهير التي احتشدت في ساحة الشّهداء وسط بيروت، بمناسبة الذكرى الـ20 لاغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، كان يسود ترقّب واسع لكلمته وما يمكن أن تتضمن من مواقف، في ضوء تسريبات تحدثت عن أنّ الحريري سيلقي كلمة مفصلية، وسيكشف فيها قرار عودته لممارسة العمل السياسي بعدما علّقه قبل زهاء 3 سنوات.
كان الترقّب في محله بعدما كشف خطاب الحريري أنّ كلّ كلمة فيه كُتبت بعناية شديدة، وأنّ الرجل العائد بعد غياب وجّه في خطابه “رسائل” متفرقة إلى الدّاخل والخارج، فُهم منها أنّ “تحديثاً” طرأ على “عقله” السّياسي، ومقاربته أكثر من قضية شائكة.
عودة الحريري عن تعليق عمله السّياسي أكّدها لجمهوره الأزرق بأنّ تيّار المستقبل “سيكون صوتكم في كلّ الإستحقاقات الوطنية، وفي كلّ المحطات المقبلة”، من دون أن يكشف مزيداً من التفاصيل، تاركاً بعض الغموض والإثارة للمرحلة المقبلة، بعدما آثر الإكتفاء بالقول: “كلّ شي بوقته حلو”.
نقطتان رئيسيتان في خطاب الحريري توقف عندهما المراقبون، نظراً لما تضمنتاه من مواقف كانت منتظرة منه، لأنّه كان على أساسها سيُبنى الكثير، وسيجعل ما قبل خطاب الحريري، في الشّارع السنّي تحديداً، ليس كما بعده.
النقطة الأولى في خطاب الحريري، الذي أظهر الحشد الشعبي الكبير الذي اجتمع بالمناسبة بأنّه ما يزال الأكثر حضوراً وتمثيلاً وتأثيراً في الشّارع السنّي، تمثلت في استمرار الحريري بسياسة “ربط النزاع” مع حزب الله ومن خلفه الطائفة الشّيعية، إذ وصف “أهلنا في الجنوب والبقاع والضاحية” بأنّهم “شركاء”، وكان هذا الموقف كافياً ليقطع الحريري على كثيرين عملوا ويعملون على صبّ الزّيت فوق نار الفتنة السنّية ـ الشّيعية، وهي فتنة يدرك الحريري وسواه بأنّها ستكون “ضربة قاضية” للبنان، وتهديداً لاستقراره الهشّ، بموازاة دعوته الشّيعة إلى أن يكونوا “شركاء في فتح جسور العلاقة مع الأخوة العرب وشركاء في إعادة الإعمار”، معتبراً إيّاهم “شركاء بقوة في إعادة الإعتبار للدولة، التي وحدها بجيشها وقواها الأمنية ومؤسّساتها تحمي اللبنانيين”.
أمّا النقطة الثانية في خطاب الحريري فتمثلت في تركيزه على أنّ تيّار المستقبل “باقٍ ليكمل وصية رفيق الحريري ومسيرة الإعتدال، والعيش المشترك، ولبنان أولاً”.
إكمال هذه المسيرة، وخصوصاً ما يتعلق منها بالإعتدال، كانت “القطبة المخفية”، برأيّ كثيرين، التي دفعت السعودية، التي فرضت على الحريري تعليق عمله السّياسي قبل 3 سنوات، إلى أن “تفرج” عنه وتعيده إلى “الحياة السّياسية”، بعدما وصلتها رسائل عديدة خلال فترة غيابه توضح لها أنّ الفراغ الذي تركه خلفه في الشّارع السنّي لم يملأه أحد، وأنّ هذا الفراغ في حال استمراره سيجعل هذا الشارع يميل عن وعي أو إدراك إلى التطرف وركوب موجته، في ضوء التطورات الأخيرة في المنطقة، ومنها سورية تحديداً، بعدما بدأت ترتفع أصوات في الوسط السنّي تدعو إلى “الإنفصال” عن لبنان والإنضمام إلى سورية “السنّية” (كان لافتاً إشادة الحريري في خطابه بالإطاحة بنظام الرئيس السّوري السّابق بشّار الأسد، لكنه لم يأتِ على ذكر رئيس المرحلة الإنتقالية أحمد الشّرع)، ودغدغ هكذا خطاب لعواطف وعصبيات فئات عدّة من الشّارع السنّي، ما من شأنه أن يُشكّل خطراً على لبنان وجواره، وأنّ دول الخليج العربي ومنها السعودية لن تكون بمأمن منه.
هل تلقفت السّعودية هذه “الرسائل” بشكل إيجابي؟ خطاب الحريري يؤكّد ذلك مبدئياً، إلّا أن ترجمته على أرض الواقع عملياً ينتظر أن يتبلور بوضوح في الأيّام المقبلة لكي يُبنى على الشيء مقتضاه.
موقع سفير الشمال الإلكتروني