شدّد المفكر العربي، مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عزمي بشارة، على وجوب خطة عربية لإعمار وإغاثة شاملة وملحة، في قطاع غزّة، تمكن من صمود أهاليه وسكانه، وقال، في مقابلة مع "العربي الجديد"، إن الشروع في هذه الخطة هو الرد العملي على أفكار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وإدارته، تهجير الشعب الفلسطيني في غزّة، وهو الذي لا يحترم إلا الأقوياء من خصومه وحلفائه، وقد شاهد الضعف العربي في أثناء حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة. وأوضح أن اليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل لا يرى لزوماً لوجود السلطة الفلسطينية. وأكد أن الحال الفلسطيني الراهن يحتم العمل على إعادة بناء منظمة التحرير وإحياء مؤسساتها. وقال بشارة في المقابلة التي جاءت أسئلتها، بالإضافة إلى محوري المشهد الفلسطيني وخطة ترامب، على الظرف السوري الجديد، إن من غير الممكن أن يُستغنى في سورية عن العاملين في الدولة وعن الجزء الأكبر من أجهزتها المدنية. وأوضح أن الحوار الوطني المزمع تنظيمه في سورية لن يجدي إذا بدا شكليّاً وإرضائيّاً، بل يفترض أن تنتج عنه مبادئ دستورية مُلزمة يُصاغ الدستور على أساسها. وفيما يلي نص المقابلة:
إلى أي مدى تعتقد أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، جادّ في تصريحاته عن تهجير أهالي غزّة إلى مصر والأردن، أو غيرهما، وإقامة مشاريع سياحية وعقارية في القطاع، هل سنشهد قريباً تنفيذاً لهذا الكلام في الواقع؟ وما أثر ذلك على المنطقة؟لقد وضعت إسرائيل من خلال حرب الإبادة التي شنّتها، وجعلت غزّة غير صالحة للعيش، الأساس لأفكار ترامب هذه، وأصبح التهجير الاستنتاج الطبيعي، بموجب عقلية مقاول التطوير العقاري التي لا يملك الرئيس الأميركي غيرها. العجيب تأكيده أن إسرائيل بحربها جعلت غزّة غير صالحة للعيش، فهذا اعترافٌ باقتراف جريمة إبادة جماعية، لأن تدمير البيئة على نحو يجعلها غير صالحة للعيش البشري هو من تعريفات مفهوم هذه الجريمة.من مظاهر مرحلة ترامب مواجهة العالم بالسياسة العارية، ومصارحته بأن السياسة من منظور أوليغارشيا رجال الأعمال العقاريين وحلفائهم من أوليغارشيا وادي السيلكون هي مصالح، بما في ذلك مصالح السياسيين الشخصية، وعلاقات قوة، وفرص للإثراء، وعدم الخجل بالكذب أو الحرج من انكشافه، وإلزام الناس بتقبّل فكرة أن الكذب البواح أمر طبيعي في السياسة ويجب التعوّد عليه. هذه لغة جديدة في السياسة تحتار حتى أوروبا في كيفية التعامل معها.ليست تصريحات الرئيس الأميركي بنت ساعتها، بل سبقتها مناقشات. وكان صهره كوشنر قد أصدر في 2024 تصريحات شبيهة. ومن الواضح أن ترامب جدّي في تبنّي مواقف أقصى اليمين الإسرائيلي، ومصطلحاته ومنظوره إلى الصراع عموماً. ومنها أن إسرائيل صغيرة وقوية ومتحضّرة ومحاطة بأعداء كثيرين متخلفين يملكون أراضي شاسعة، وتوجد دولة يهودية واحدة، واثنتان وعشرون دولة عربية، ولا حاجة إلى دولة عربية إضافية... وغير ذلك من كليشيهاتٍ تعجّ بها كراريس الدعاية الصهيونية. وينسجم هذا مع نظرته العامة إلى الشعوب والدول والمجتمعات، والتي تنطلق من الانحياز إلى الأثرياء والأقوياء عموماً الذين يمكن عقد صفقاتٍ معهم، واحتقار من نعدّهم مقموعين ومظلومين، ويعدّهم هو خاسرين وفاشلين. إضافة إلى ذلك، تتشابك الحلقة المحيطة بترامب باللوبي الإسرائيلي، وتتبنّى خطاب اليمين القومي الديني المتطرّف بشأن تاريخ فلسطين، وتتعامل معه بلغة رأسمالية التطوير العقاري بمصطلحاتٍ توراتية. كنّا نعرف مدى قوة اللوبي الإسرائيلي ولوبي الإنجيليين وتداخلهما، ولكننا نُفاجأ في كل مرة من صلافة هذا التحالف وعدوانيّته وتصميمه.أصدرت معظم الدول العربية مواقف ترفض دعوات ترامب إلى إخلاء قطاع غزّة وتهجير أهله. ولكن، ما هي الخطوات التي يُمكن للدول العربية أن تقوم بها لإفشال هذا المخطّط الأميركي؟ وهل يُحتمل أن نشهدَ تعاوناً عربيّاً في تنفيذ هذا المخطط، بتشجيع ما تُسمّى "الهجرة الطوعية" من القطاع؟المواقف العربية الرسمية تحصيل حاصل. والمطلوب اتخاذ خطوات تجعل غزّة صالحة للعيش البشري، من دون طلب إذنٍ ممن يريد تهجير سكّانها. المطلوب، والواقعي، والممكن هو إعداد خطّة عملية والمباشرة بتنفيذها، تتضمن الإغاثة المباشرة والمعونات الغذائية والدوائية، والسكن المؤقت، وممارسة التعليم بأساليب ميدانية وإقامة مستشفيات ميدانية وإيفاد فرق طبية، ووضع خطّة لإزالة الركام، بما في ذلك مشاريع للاستفادة منه وإعادة تدوير ما يمكن إعادة تدويره، وخطة للإعمار. وتخصيص الميزانيات اللازمة لذلك كله. ويُفضّل إنشاء هيئة خاصة لإعادة الإعمار تُخصّص لها الميزانيات اللازمة. وثمّة مبالغات غربية مقصودة بخصوص المدة الزمنية اللازمة لتنفيذ ذلك كله. إن وسيلة الصمود الرئيسة حالياً هي إعادة الإعمار الشاملة، ولا سيما أن من آثارها غير المباشرة توفير وظائف أيضاً.لن تؤدّي هذه الخطة إلى تعريض مصالح الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة للخطر، فترامب لا يحترم غير الأقوياء من حلفائه وخصومه على حد سواء. انظر فقط كيف يتعامل مع أوروبا وروسيا. وكيف أهدى لبوتين إنجازات في أوكرانيا قبل التفاوض الفعلي، فقط بسبب تصميم الأخير على الاستمرار رغم العقوبات والحصار الدولي، وتردّد أوروبا في مواجهته واعتمادها على الولايات المتحدة في الدفاع عن نفسها.مظهر الضعف الذي أبدته الدول العربية خلال حرب غزّة ، بما في ذلك ما بدا وكأنه اعتماد بعضها على إسرائيل في مواجهة إيران وفي تصفية المقاومة الفلسطينية أدّيا إلى استهانة ترامب بها؛ وسوف يؤدّي إظهار القوة والتصميم إلى مراجعة خططه.لم يربح العرب في الولايات المتحدة من "انتصارات" إسرائيل على محور إيران، بل ربحت إسرائيل. وأصبحت الولايات المتحدة تعوّل عليها أكثر من السابق. والعرب، بغضّ النظر عن خلافاتهم وطبيعة أنظمتهم، أصبحوا في أمسّ الحاجة إلى إظهار القوة في مرحلةٍ يُعاد فيها تقاسم العالم بين الأقوياء.لاقت تصريحات ترامب بشأن غزّة رفضاً دوليّاً واسعاً أيضاً، حتى من دول حليفة للولايات المتحدة وإسرائيل، ومنها ألمانيا التي صمتت على جرائم الإبادة الجماعية ودعمت إسرائيل بالسلاح، ذكرت أن مخطّط التهجير يتعارض مع القانون الدولي. ما أهمية هذه المواقف الدولية إذا أخذناها في سياق ما يُصرح به ترامب عن رغبته في الاستيلاء على مناطق أخرى في العالم، وعن الرسوم الجمركية العالية التي بدأ يفرضها على منتجات دول عديدة؟يمكن الاستفادة من هذه المواقف، لأن بعضها يصدُر عن دولٍ تختلف مع ترامب بشدّة على قضايا أخرى، تتضمّن مصالح مباشرة لها، مثل قضية أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي وغيرها، وليس لأن خطوات ترامب مخالفة للقانون الدولي، فهذا لا يهم أحداً، فهذه الدول تصمت عن مخالفات القانون الدولي، حين لا تتأثّر مصالحها بالأمر. لكن نعم، يُضاف إلى هذه التصريحات الخلاف مع إدارة ترامب على أمور أخرى، ما قد يفيد في إجراء العرب تحالفاتٍ ولو مؤقتة ضد مخططات التهجير في فلسطين وتوسيع النفوذ الإسرائيلي في الإقليم.تبدو تصريحات ترامب صفعة مبكّرة للسلطة الفلسطينية الساعية إلى أن تحكم قطاع غزّة فيما يُسمى باليوم التالي للحرب. ما هو مستقبل العلاقات بين السلطة الفلسطينية والإدارة الأميركية على ضوء هذه المستجدّات في أول أسبوعين من حكم ترامب، وما هو مستقبل السلطة نفسها في السنوات المقبلة، مع الأخذ بالاعتبار ما يجري في الضفة الغربية من ممارسات إسرائيلية واستيطانية؟ليست الصفعة الأولى ولا الأخيرة. ولا أدري في أي عالم تعيش السلطة الفلسطينية.كيف تقرأ اتفاق وقف إطلاق النار على ضوء ما يحصل بعد التوصل إليه في تنفيذه والالتزام به وعمليات تبادل الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، وظهور عناصر المقاومة الفلسطينية بهذا الشكل والعدد والتنظيم، في موازاة التصريحات الإسرائيلية عن إمكانية العودة إلى القتال؟صحيحٌ أن إسرائيل لم تحقق هدفيها، تحرير المحتجزين والقضاء على حركة حماس، كما أن الشعب الفلسطيني ومقاومته أظهرا صموداً اسطورياً. ولكنها دمّرت قطاع غزّة، وغيّرت موازين القوى في المنطقة من خلال هذه الحرب والحرب على لبنان... يصعب تقدير مستقبل وقف إطلاق النار إذا لم تبدأ الدول العربية فوراً بخطة الإعمار والإغاثة الشاملة التي أشرتُ إليها من خلال معبر رفح، وإذا لم تغيّر نمط سلوكها في أثناء الحرب، والذي أوصلها إلى استهانة الإدارة الأميركية وإسرائيل بها إلى هذه الدرجة. وحبّذا لو نسمع منها تحذيراً واضحاً لحكومة نتنياهو من العودة إلى الحرب.بالنسبة لعروض عناصر المقاومة الفلسطينية عملية تسليم الأسرى، أعتقد انها كانت مفيدة في البداية لتأكيد وجودها وفشل إسرائيل بالقضاء عليها. وهذا حصل والرسالة وصلت. ولكني أعتقد أن تكرار هذه المظاهر وبثها مباشرة غير مفيد، فقد أصبح يفتح جبهات جديدة المقاومة في غنى عنها.كيف تقرأ عدوان جيش الاحتلال الإسرائيلي الجاري على الضفة الغربية؟استغلّ الاحتلال الحرب على غزّة لتنفيذ خطط موجودة في الأدراج لتوسيع الاستيطان وتقطيع أوصال الضفة الغربية، تمهيداً لضم الكتل الاستيطانية ومناطق في غور الأردن، وتنفيذ أوامر مؤجلة لهدم البيوت ومصادرة الأراضي، والتخلص من تجمّعات بدوية. وهي تعمل على القضاء على بؤر المقاومة بنفسها من خلال تهميش دور السلطة الفلسطينية، حتى في حفظ الأمن الإسرائيلي، بحيث تفعل هذه السلطة ما يُطلب منها فقط، وهو موقف الائتلاف الحالي الحاكم في إسرائيل، والذي لا يرى حاجة إلى وجود سلطة فلسطينية، ويعادي أي سلطة فلسطينية موحدة مهما كان نوعها. يمكنك أن تلاحظ تنفيذ بنودٍ مما سُمّيت صفقة القرن من طرف واحد، من دون حتى النزر الضئيل الذي تمنحه الصفقة للطرف الآخر.ولا شك ان إجراءات التضييق على حياة المواطنين الفلسطينيين تشمل ضمنياً تشجيع الهجرة من الضفة الغربية بجعل الحياة فيها لا تُطاق.لماذا يستمرّ الانقسام الفلسطيني مع كل ما يحصل للقضية الفلسطينية، خصوصاً بعد أهوال حرب الإبادة في غزّة؟ هل الموضوع مرتبط بإرادات سياسية فقط، أم أن المصالح السياسية لأكبر فصيلين لا يمكن أن تلتقي؟هذا موضوع مزمن أصبحت له ديناميكية منفصلة عن أسبابه التاريخية. وليس مصادفةً أن اتفاقيات المصالحة التي تُوقّع لا تُنفّذ. الإرادة غير موجودة، والمصلحة غير موجودة، أو توجد قراءات متناقضة للمصالح، بعضُها نابع، للأسف، من الظروف الشخصية المباشرة ومواقع الأشخاص المعنيين في السلطة.ليست السلطة الفلسطينية دولة ذات سيادة، ولكنها تريد احتكار السلاح في ظل الاحتلال، ولا تسمح بدمج قوى سياسية مقاومة في السلطة أو في منظمة التحرير، وترفض وجود حتى قوى معارضة، وتصرّ على التنسيق الأمني مع الاحتلال في هذه الظروف، لأن وجودها مرتبط به. وترفض الاعتراف بفشل مسار أوسلو المدوّي واستنتاج النتائج. وقد قامت بتهميش منظمة التحرير، وكأن مرحلة التحرّر قد انتهت وحق تقرير المصير أُنجز، وبدأت تهمش حتى الحركات السياسية التي تستند إليها، مثل حركة فتح، وتكتفي بمؤسّسة الرئاسة وطاقمها وأجهزتها الأمنية.من ناحية أخرى، تريد حركة حماس الوحدة في إطار السلطة المرتبطة باتفاقيات أوسلو التي تتضمّن التنسيق الأمني، وليس فقط في إطار منظمة التحرير (المرتبطة أيضاً بهذه الاتفاقيات وإنْ لا تتولى تنفيذها)، لكنها لم تدرس على نحو كاف إسقاطات ذلك على استراتيجية المقاومة، فهل هي مستعدّة لإعادة النظر فيها وعدم التفرّد في اتخاذ قراراتٍ قد تؤثر على السلطة التي تشارك فيها بغض النظر عن طبيعة هذه السلطة؟... لا أدري. ثمّة أمورٌ تستحق التقييم من جديد، وأعتقد أن ثمة جاهزية لذلك. ما هو المردود السياسي لظهور جماعات شبابية مسلّحة علناً في مخيمات الضفة؟ ألا يُفترض أن يكون العمل المسلح في ظروف الاحتلال سرّياً بالكامل؟ هل تستحقّ النزعة الاستعراضية الثمن الذي يُدفع.؟أعتقد أن الظرف الجديد بعد حرب الإبادة، وحيث العدوان الجاري في الضفة الغربية، يحتّم البدء بإحياء المنظمة من خلال تفعيل مؤسّساتها، وضم حركتي حماس والجهاد وقوى المجتمع الفلسطيني الذي أظهر صموداً وتضامناً فائقين. واستغلال الاعتراف العالمي المعنوي بدولة فلسطينية.على كل حال، توجد مرحلة جديدة حالياً. فما يسمى "العملية السياسية" بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل انتهت، ولم تعد قائمة وثبت أنها لا تقود إلى أي حل عادل أو غير عادل لقضية فلسطين، ويجب الآن مواجهة مخططات الضم والتهجير. إلى أي مدى نجحت إسرائيل بمحاصرة الفلسطينيين في أراضي الـ1948، والسيطرة عليهم، والتخلص من مطالبهم السياسية الجماعية، من خلال أدوات القمع المتزايد إلى جانب إطلاق يد عصابات الجريمة المنظّمة التي أصبحت سيدة الفضاء العام من خلال القتل والترهيب اليومي، وكيف للفلسطينيين في الداخل مواجهة هذا الواقع القاتم؟أعتقد أن إسرائيل نجحت إلى حد بعيد خلال الحرب على غزة في سياسة التخويف، والعودة إلى سياسات حقوق المواطنة المشروطة سياسياً، وأيضاً في إشغال المجتمع العربي في الداخل بالجريمة المنظّمة التي لا شك لدي أنها باتت سياسة رسمية إسرائيلية، تنفَّذ في تربة اجتماعية ملائمة، ناجمة عن تشويهات الأسرلة، والتحوّلات الاجتماعية والديمغرافية، ولا سيما نشوء البلدات المكتظّة بالسكان التي لم تعد قرى ولم تصبح مدناً سوى بالتسمية، وأصبحت بمثابة الضواحي المحيطة بالمدن اليهودية. وهي ضواحٍ فاقدة للاقتصاد والتشغيل من جهة، والفضاء العمومي من جهة أخرى. وقد كتبتُ عن ذلك في مرحلة مبكرة.القضية معقدة، فالحديث هنا عن مجتمع مرّ بعملية تحديث سريعة أضعفت البنى التقليدية وقيمها، من دون الاستعاضة عنها بمؤسّسات وطنية حديثة قادرة على فرض معايير المجتمع وقيمه الجديدة، فالمؤسّسات السياسية والقانونية والاقتصادية القائمة إسرائيلية يشارك العرب على هامشها. كما نشأ مجتمع وفرة استهلاكي يتنافس فيه الناس على المظاهر الاستهلاكية، في ظروف سكنية تشبه أحياء الفقر، وبعضهم مستعدٌّ للاستدانة بالفائدة، لكي يصمد في المنافسة، ويلبّي حاجات وهمية، مثل السفر أكثر من مرة في العام للتنزّه خارج البلاد، ونوع السيارة المنزلية، والإسراف في احتفالات المناسبات العائلية وغيرها... إلخ. والاستدانة بالفائدة هي مصدر مهمّ لإعالة عصابات الجريمة المنظّمة. وقد بدأت الأخيرة بالتمأسس علناً، ودخول مجالات شرعية مثل السلطات المحلية وعطاءاتها في مجال الخدمات وغيرها.لا توجد لدى عرب الداخل مؤسّسات وطنية قوية قادرة على مواجهة عصابات الجريمة بالقوة، ولا بد من الضغط على الشرطة لتأدية دورها. ولكن على المدى البعيد، لا يمكن مواجهة الجريمة من دون التعامل مع الأسئلة التي أثرتها والمتعلقة ببناء مؤسّسات وطنية ذات نفوذ وهيمنة ثقافة وطنية. وثمّة تجربة وتراث وطني نضالي، وجيل شاب واعٍ، وفئات واسعة من المتعلمين، فالمهمة ليست مستحيلة.قلتَ في كلمتك الافتتاحية لمنتدى فلسطين الثالث، بتنظيم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، نهاية شهر يناير/ كانون الأول الماضي، إنك "ترى نفقاً ولا ترى الضوء في آخره"، في سياق الحديث عن القضية الفلسطينية.. ماذا يمكن أن يكون هذا الضوء؟لا يوجد ضوء في نهاية النفق، بل يجب إشعاله من خلال ممارسة الفاعلين، وإعادة النظر في الاستراتيجيات التي تنتقل من نفقٍ إلى آخر، ومن متاهةٍ إلى أخرى، فلا يجوز الإصرار على طريقٍ أثبت أنه لا يقود إلى خارج هذا النفق، ولا انتظار الفرج والخلاص من حتمية تاريخية ما.إلى أي مدى ترى الإدارة الجديدة في سوريا عازمةً على تحقيق حوار وطني سوري شامل، تتمثل فيه جميع مكونات الشعب السوري، وهل ترى خطوات جدّية على الأرض في ما يخص ذلك، بما يشمل إجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة مستقبلاً؟أي حوار وطني يجب أن ينعقد بالضرورة بمشاركة مختلف فئات الشعب السوري وتياراته السياسية والاجتماعية وانتماءات أفراده المذهبية والدينية والإثنية، بعد إقصاء النظام السابق ومن يواليه. لكن السؤال يتعلق بمدى إلزامية نتائج الحوار لناحية المبادئ الدستورية التي يجب تبنّيها، إذ يُفترض أن يتوصل الحوار إلى حد أدنى من الإجماع المُلزم الذي يمكّن من العيش المشترك، وسقف أعلى من الحقوق والحريات. لا يجوز أن يكون الحوار شكليّاً وإرضائيّاً، بل يفترض أن تنتج عنه مبادئ دستورية مُلزمة يُصاغ الدستور على أساسها.السلطة الحالية مشغولة جداً وبحق بتوفير الظروف اللازمة لتسيير الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيما على مستوى توفير الأمن ورفع العقوبات المفروضة والتي تشل الاقتصاد السوري، مستغلةً الاعتراف الدولي بالسلطات الانتقالية.من الصعب القيام بهذه المهام من دون الانفتاح على فئات الشعب السوري كافّة، ولا يمكن الاستغناء عن العاملين في الدولة، وعن الجزء الأكبر من أجهزتها المدنية. وهذا يتطلب إعادة تثقيف لعناصر هيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل للتخلّي عن زاوية النظر الفصائلية وعقلية العمل المسلح التي لا تثق بغير الموالين، أو العقلية السلفية التي تصنّف الناس بموجب دينهم ومذهبهم ودرجة إيمانهم على مستوى المظهر الخارجي وغيره.ثمّة تقدم في هذا المجال على مستوى العاصمة وبعض المناطق المدنية، ولا بد من بذل جهدٍ أكبر، هذا إذا توفرت النية لذلك.هل تعتقد أن روسيا سوف تتجاوب مع مطالب سوريا بتسليم بشار الأسد وفق احتمال لترتيبات جديدة في العلاقة بين البلدين تضمن المصالح الروسية؟لا أعتقد ذلك، كيف تسلّم الأسد، وهو الذي، بدعمها، استمرّ في الحكم طوال عقد منذ ممارسة حق النقض مراتٍ في مجلس الأمن، وصولاً إلى التدخل العسكري برضا أميركي عام 2015؟ ومن ثم هي تتحمّل جزءاً من المسؤولية عما آل إليه الوضع في سوريا في ظل حكمه. على كل حال، في هذا العالم الذي تحكمه علاقات القوة والمصالح العارية أصبح كل شيء جائزاً. ولكن سوف تنشأ علاقات عادية بين روسيا وسوريا في مجالات أخرى، وهذه لا بد منها على مستوى الدولتين. فثمّة علاقات بين الدول من المفترض أن تتجاوز العلاقة بين الأنظمة. وأعتقد أن الإدارة الحالية تتمتّع بالبراغماتية اللازمة لحكم سوريا، أما النظام في روسيا فتجاوز منذ مدة طويلة البراغماتية إلى المَكْيافيلية.حذّرت في مقابلة سابقة لك من العمل الإسرائيلي على تقسيم سوريا. ما هو شكل التقسيم الذي تطمح له إسرائيل؟ وكيف يمكن مواجهته؟تلخّصت استراتيجية إسرائيل خلال الثورة بتشجيع كل ما من شأنه أن يُضعف سوريا. وقد فضّلت سوريا ضعيفة (مقسّمة في الواقع إلى أربع مناطق) في ظل حكم الأسد الذي تربّع على خرائب بلده. وتعاونت مع روسيا وأميركا خلال ممارسة هذه السياسة. وكل ما قامت به إسرائيل منذ سقوط الأسد من تدمير للبنية التحتية العسكرية ومحاولتها الحيلولة دون قيام جيش سوري يؤكّد هذا التوجه. غياب مؤسسات الدولة حالياً فرصة ذهبية بالنسبة لها، ليس فقط للتوسّع، وإنما أيضاً للبحث عن نفوذ في سوريا. ولا أعتقد أنها تنازلت عن تصوّرها القاضي بضرورة تقسيم سوريا. أما ممارساتها فحدّث ولا حرج. ولذلك يجب أن تدرك الإدارة الجديدة أن وحدة الشعب السوري في ظل ثوابت وطنية ومحرّمات أمر مصيري لدولة أراضيها نفسها محتلة، وتعد قضية فلسطين أساسية بالنسبة لها على مستوى دورها الإقليمي ومكانتها، وعلى مستوى الروابط التاريخية مع فلسطين وشعبها. وتجاهل هذه القضايا مؤقتاً إلى حين رفع العقوبات والإصغاء للنصائح الغربية بعدم إثارة قضايا المناطق المحتلة لن يكبح جماح إسرائيل أو يدفعها إلى تغيير مخطّطاتها.ما أهمية الانفتاح العربي على سوريا وما المطلوب عربيّاً لدعم المرحلة الحالية؟هذه أولوية بالطبع. وأعتقد أن الإدارة الحالية تدرك ذلك. المطلوب هو الدعم الدبلوماسي لرفع العقوبات، والدعم الاقتصادي المباشر، والاستثمار فوراً في البنية التحتية، وفي القطاعات الإنتاجية، لا سيما الزراعة والصناعة الزراعية، وتشجيع رجال الأعمال السوريين على العودة للاستثمار في سورية، ولا سيما في الصناعات التي اشتهرت بها سورية. وتشجيع الدولة على تطوير القطاع السياحي الواعد جداً الذي لم يُستغل في سورية على نحو كافٍ في الماضي بسبب الانغلاق الذي كان قائماً.تُوجّه منظماتٌ حقوقية سورية انتقادات إلى الإدارة الجديدة لعدم تصدّيها للانتهاكات التي يقترفها عناصر محسوبون عليها بحق مواطنين سوريين، وهي انتهاكاتٌ تتكرّر في أكثر من مكان في البلاد. لماذا لا تستطيع الإدارة الجديدة وقفها، وبعضها يأخُذ طابعاً طائفيّاً؟هذه وظيفة المنظمات الحقوقية ويجب أن تقوم بها، ويفترض أن تشكرها الإدارة الجديدة على لفت نظرها إلى هذه الأمور، فقد يكون بعض تلك الانتهاكات خارجاً عن السيطرة، كما يساعد هذا النقد، إذا لم يتضمّن مبالغات، الإدارة الجديدة على ضبط عناصرها، فالصمت على بعض الممارسات يشجّع على مواصلة ارتكابها.ما زالت الإدارة الجديدة فتية. وهي تواجه تحدّيات ثلاثة في هذا المجال: ثقافة عناصرها الأمنية. عدم قدرتها على السيطرة على التفاصيل في جميع المناطق لمحدودية حجمها قياساً بحجم سوريا. عدم تفعيل أدوات قانونية في المحاسبة على التجاوزات في هذه المرحلة المبكرة.ما تقييمك للتعامل مع ملفّ العدالة الانتقالية؟ وما يجب القيام به في الفترة الحالية؟هذا لم يحصل بعد. ويُفترض أن يكون تشريع العدالة الانتقالية من أهم وظائف هيئة الحكم الانتقالي، أو السلطة التشريعية المؤقتة المزمعة إقامتها. التشريع للعدالة الانتقالية، بما في ذلك تحديد الأجهزة المسؤولة، وإنشاء بعضها، شرط ضروري. ولكن ثمة شروط أخرى، مثل رفض التعميم ونبذ الشائعات والمبالغات وتجريم التحريض الطائفي، والتشجيع على المصالحة لكي يتمكّن المجتمع السوري من طي هذه الفصل، والانتقال إلى مرحلة جديدة من تاريخه. وهذا لن يحصل من خلال شعبوية وسائل التواصل الاجتماعي، ويجب أن تقوده الإدارة الجديدة، ولا سيما أنه يصعب المزايدة عليها في العداء للنظام السابق.هل حلّ الجيش السوري خطوة صحيحة، وما هي قدرة الرئيس أحمد الشرع في توحيد الفصائل في جيش واحد؟الإدارة حلّت الجيش، بغض النظر عن تعدد الآراء وتقييم تجارب سابقة (في العراق جرى حل الجيش. وفي جنوب أفريقيا لم يحل الجيش بعد إسقاط نظام الأبارتهايد، بل تغيرت قيادته وعقيدته). وأصبحت سورية أمام وضع قائم، وآمل أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه باستخدام الهيكلية القائمة، وعدم البدء من الصفر، واستدعاء ضباط منشقين وبعض الضباط غير المنشقّين، فمن الصعب بناء جيش من الفصائل من دون وجود عسكريين محترفين غير فصائليين. لستُ خبيراً في تشكيل الجيوش، ولكن يبدو لي أن المهمّة لن تكون سهلة لناحية الدمج وتأسيس عقيدة عسكرية، وتقديم الولاء للوطن في الجيش على الولاءات الأخرى، ودمج انتماءات المجتمع السوري المختلفة الطائفية والمذهبية في الجيش، فهو الفرصة لتعزيز الوطنية السورية.هل يُمكن قراءة الانفتاح الدولي على الإدارة الجديدة، وجديده أخيراً دعوة الرئيس أحمد الشرع إلى باريس، أن له أسباباً تتعلق بالتعامل مع ملف الجهاديين في سورية، والترتيب لعودة اللاجئين السوريين؟لا أعرف. ولكن من الواضح أن غالبية الدول معنية بنجاح تجربة الانتقال لأسباب مختلفة، وألا ينشأ فراغ جديد في سورية. ويجب استغلال ذلك.