السؤال المطروح على الحكومة السورية ليس لماذا ترفض اللامركزية، بل ما هي المركزية التي تتمسك بها؟ هل هي مركزية سياسية، اقتصادية، أم إدارية؟ أم أنها تريد تقييد كل ذلك بسلطة واحدة؟ هذا السؤال لا يهدف إلى التشكيك بصحة أو خطأ الأحكام المسبقة حول شكل الدولة، لكنه قد يساعد في فهم الطريق نحو الحلول، سواء مع مكونات الشعب السوري، أو مع المجتمع الدولي، الذي بات متدخلاً ومراقباً لكل تفاصيل المشهد السوري.فالمصارحة حول شكل النظام الجديد في سوريا تفيد في تضييق الفجوات في جميع ملفات التفاهمات المحلية. إذ إن الخلاف الحاد اليوم لا يقتصر على الأكراد فقط، كما يتم تصويره، بل يشمل جهات عديدة أخرى، جنوباً وشرقاً وشمالاً وغرباً، فهل المقصود بالمركزية هو ضبط السياسة الخارجية، ووحدة الجيش وقوى الأمن، وإدارة الموارد الوطنية؟ هذا فعلياً، لا يتناقض مع مفهوم اللامركزية. أم أن الهدف هو استعادة السيطرة الشاملة، حيث تُحتكر القرارات كافة بيد سلطة واحدة من دون توزيع للصلاحيات؟
قد تنجح سياسة المركزية الشديدة في دولة مستقرة، تملك مقومات اقتصادية تمكنها من إحداث نهضة شاملة على مساحة البلاد، ولكن لا يخفى على أحد أن سوريا اليوم تُصنَّف ضمن الدول "الهشة"، ليس بصفتها التاريخية، بل بسبب أوضاعها الاقتصادية والعسكرية والخدمية الحالية. فهي خرجت من حرب دمرت مؤسساتها، وأرهقتها بالديون الخارجية، وأضعفت جيشها وقواها الأمنية، والأخطر من ذلك أنها مزقت وحدتها المجتمعية. لذا، فحتى شعار "الشعب السوري واحد" يحتاج إلى إعادة إعمار، ليس فقط للاقتصاد والبنية التحتية، بل أيضاً لإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري، وذلك عبر تحقيق العدالة الانتقالية والمساءلة، فلا تتحمل طائفة واحدة دون غيرها عبء المرحلة الأسدية المدانة.من هنا، يمكن تفهم رغبة المناطق في إدارة شؤونها المحلية (المدنية)، سواء لرغبتها في تجاوز النظام السابق أو لتحرير اقتصادها من مركزية مشددة تعيق الاستثمار، وتُبقي النشاط الاقتصادي محصورًا في دمشق بسبب بيروقراطية الوزارات. وبالتالي، فإنها ترى في منح صلاحيات إدارية أوسع قد يسرع من عملية إعادة إعمارها، بمشاركة رجال الأعمال من أبناء تلك المناطق أنفسهم، ما يخلق حالة تنافسية شديدة الإيجابية بينهم تعود بالفائدة على سوريا بعمومها.
لطالما كانت اللامركزية الإدارية مطلبًا لمحافظات عديدة، ويُعَدّ القانون 107 محطة رئيسية في هذا المسار، إذ يمنح الوحدات الإدارية صلاحيات واسعة، تضمن مرونة الإدارة من دون المساس بوحدة البلاد، وهو تقريباً يدخل ضمن حدود ما تحدث به الرئيس الحالي، أحمد الشرع، خلال لقائه لفعاليات شعبية، عندما منحهم حق اختيار من يقود مناطقهم المحررة، ما يعني أنه في مضمون خطابه حررهم من مركزية القرار الإداري. واللامركزية الإدارية هي "قوننة" لمثل هذا الأمر الذي يمنح المحافظات السورية حق اختيار قادتها والمسؤولين عن تنفيذ سياساتها.يمنح القانون 107 البلديات والمحافظات حرية اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتها اليومية، مثل تخطيط المشاريع المحلية، وإدارة الموارد، وتطوير البنية التحتية، مما يسهم في تحسين الخدمات العامة وتعزيز التنمية الاقتصادية. ويمكن مقارنة هذا النموذج بتجربة الإمارات العربية المتحدة، التي تمزج بين المركزية القوية على المستوى الاتحادي، واللامركزية الفعالة على مستوى الإمارات السبع، ما يمنح هذه المناطق مرونة كبيرة في اتخاذ القرارات وفقاً لأولوياتها الخاصة، مع بقاء الشؤون السيادية مثل الدفاع والسياسة الخارجية ضمن نطاق الحكومة المركزية. ما يعني أن هناك نماذج متعددة للامركزية، بدءًا من الإدارية التي تبسط الخدمات، وصولاً إلى الاقتصادية التي أثبتت نجاحها في تجارب كالإمارات، حيث عززت التنمية والاستثمار المحلي.إن جوهر اللامركزية الإدارية لا يعني تفكيك الدولة، بل يمثل نموذجاً حديثاً للحكم يعزز التكامل بين المركز والمناطق المحلية. فالوحدة الوطنية في سوريا لا تتحقق بتركيز السلطة بيد واحدة، بل من خلال دستور موحد، وجيش وطني، وثروات وطنية تُعتبر حقاً لجميع السوريين، من دون تخصيصها جغرافياً لمنطقة معينة. كما أن التمثيل السياسي الخارجي للدولة يجب أن يبقى مركزياً، كما هو حال الجيش، ما يضمن تماسك الدولة على الساحة الدولية، ويحد من الشعور بالتهميش الذي طالما عانت منه المدن النائية. كما أنها توفر مجالاً لاحترام التنوع الثقافي والديني، حيث يمكن لكل منطقة تنظيم أعيادها وعطلها المحلية، بما لا يتعارض مع القانون العام للدولة، وبما يعزز التعايش بين مختلف مكونات الشعب السوري، ويزيل أحد أهم الذرائع التي يستخدمها أصحاب السلاح على حساب رفاهية مجتمعاتهم.
وفي هذا السياق، تطرح اللامركزية الإدارية كبديل عن الفيدرالية القومية التي تقوم على أسس عرقية، وهو ما قد يقلل من المخاوف الإقليمية والدولية المتعلقة بتقسيم البلاد. وقد يكون هذا التوجه حلاً عملياً للتوفيق بين متطلبات الإدارة المحلية ومخاوف الدول المجاورة، لا سيما تركيا، التي تعتبر أي شكل من أشكال الفيدرالية القومية تهديداً لأمنها القومي.لعل تطبيق اللامركزية الإدارية أو قانون الإدارة المحلية مع تحسيناته، أو أياً كانت تسميتها المقبولة لدى السلطة في سوريا، يمثل خطوة مهمة نحو تعزيز الحكم الرشيد وتحقيق التنمية المتوازنة، مع ضمان وحدة الدولة وسيادتها. فالتوزيع الذكي للصلاحيات لا يعني إضعاف السلطة المركزية، بل يجعلها أكثر كفاءة ومرونة، ويعزز دور المجتمع المحلي في بناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً لسوريا. كما أن تبنّي نموذج اللامركزية أو ما يمكن تسميته بـ"الفيدرالية الإدارية الجغرافية" قد يكون حلاً يضمن التوازن بين تطلعات المكونات المختلفة، ويحمي البلاد من خطر التفكك، وقد يكون الوصفة السحرية التي تحقق لمّ شمل الأراضي السورية بديلاً عن تمزيقها!