تثير قرارات الإدارة السورية الجديدة، والتسويات التي تجريها، جدلاً واسعاً بين السوريين، مع عودة الكثير من مجرمي الحرب ومسؤولي النظام المخلوع، إلى ممارسة أعمالهم ومهامهم، مما يطرح تساؤلات حول آلية عمل هذه التسويات وتأثيرها على مسار العدالة الانتقالية في سوريا.
واللافت خلال الأيام القليلة الماضية، ظهور عدد من الشخصيات المتهمة بارتكاب جرائم حرب ومجازر بحق السوريين، بدعم وحماية الأمن العام التابع لوزارة الداخلية، فضلاً عن قرارات التعيين الأخيرة التي شملت شخصيات ذات صلة بأجهزة النظام المخلوع، وطالت مختلف القطاعات الحكومية الحساسة كالتعليم والصحة والقضاء والأمن.
مجرمون طلقاء
فقد ترك خروج وزير داخلية النظام المخلوع محمد الشعار، في لقاء مصور بعد تسليم نفسه للسلطات الجديدة، انطباعاً سيئاً ومقلقاً في الشارع السوري، الذي اعتبر مجرد ظهوره الإعلامي وحديثه إساءة لهم، بالنظر إلى الجرائم التي ارتكبها داخل البلاد وخارجها.
وسبق ظهور الشعار، احتجاجات شعبية في حي التضامن بدمشق، مطلع شهر شباط/فبراير الجاري، على عودة فادي صقر، قائد إحدى المليشيات المتهم بارتكاب مجازر بحق سكان الحي، رفقة مجموعة من عناصره المقربين ولقائهم ببعض الوجهاء، بعد الحديث عن قيامه بتسوية وضعه.
ليشهد يوم الأحد الماضي، عودة خالد الفارس، قائد فرقة الموت في مليشيا الدفاع الوطني بحمص، والمتهم بقتل الصحفية الأمريكية ماري كولفين عام 2012، قادماً من دبي بعد فراره من البلاد عقب سقوط الأسد، حيث تحدثت وسائل إعلامية محلية عن تسوية وضعه، ما يثير القلق من حصول هؤلاء على ضمان عدم ملاحقتهم مستقبلاً.
تسوية أمنية فقط
ووفق إعلان إدارة العمليات العسكرية، فإن عملية التسوية تتضمن إصدار بطاقة أمنية مؤقتة صالحة لمدة ثلاثة أشهر، تتيح لحاملها التنقل بحرية وتحميه من الملاحقة القانونية خلال هذه الفترة.
ويوضح عضو نقابة المحاميين السوريين الأحرار عبد الناصر حوشان، في حديثه لـ"المدن"، أن التسوية التي تجريها الدولة السورية للمسؤولين ومن قاتل إلى جانب النظام، تأخذ طابعاً أمنياً وعسكرياً بحتاً.
ويقول حوشان إن هذا الإجراء، "لا يحميهم من الملاحقة القضائية والقانونية، في حال ثبوت تورطهم بقضايا وانتهاكات تخص المدنيين في أرواحهم أو ممتلكاتهم، وهو ما يجعلهم داخل خزانة العدالة الانتقالية".
ويشير إلى ضرورة التميز بين إجراءات التسوية التي تخص الوضع الأمني للفرد، وبين العفو الذي سبق وأن حصل عليه جنود الخدمة الإلزامية في جيش النظام، دون أن يشمل الضباط والمتطوعين والمسؤولين.
تحقيق العدالة الانتقالية
لكن المحامي وعضو جمعية "خليل معتوق" لحقوق الإنسان، ميشال شماس، يعتبر أن عمليات التسوية التي جرت لبعض المشتبه بارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، أعطت رسالة سيئة للناس، وانعكست مباشرة بقيام عدد من أهالي الضحايا بعمليات انتقام.
ويقول شماس لـ"المدن": "على الحكومة اليوم أن تهيئ الأرضية لتطبيق مسار العدالة الانتقالية، من خلال إصدار قانون إحداث هيئة العدالة الانتقالية من شخصيات وطنية خبيرة، وإنشاء محاكم خاصة وتدريب وتأهيل قضاتها، وتعديل قانون العقوبات الذي لا يعاقب على جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية المنصوص عليها في قانون روما، وتضمين تلك الجرائم بنص قانون العقوبات".
ويرى أن الأفضل لنجاح مسار العدالة الانتقالية، "يوجب إشراك قضاة غير سوريين لضمان حياديتها، وتشكيل لجان كشف حقيقة ما جرى، ولجان تعويض الضحايا والاعتراف بمعاناتهم وتكريمهم وتخليد ذكراهم، وتشكيل لجان المصالحة التي من مهامها إجراء مصالحات مناطقية وعلى مستوى البلاد".
تدوير الفاسدين
ولا تقتصر مخاوف السوريين على عودة مجرمي الحرب لممارسة حياتهم الطبيعية فقط، إنما تشمل إعادة تدوير فاسدين ومجرمين في عهد الأسد المخلوع وتسليمهم مناصب رفيعة داخل مؤسسات الدولة.
وسبق وأن شهدت محافظة السويداء جنوب سوريا، احتجاجات نظمها ناشطون ومعلمون، على قرارات مديرية التربية بتعيين مدراء ومدرسين متهمين بقضايا فساد ضمن السلك التعليمي، وهي الثانية خلال أيام، بعد حالة الاستياء والغضب الذي رافق قرار تعيين العميد طلال العيسمي، قائداً لشرطة المحافظة، رغم تورطه بقتل المتظاهرين السلميين في درعا، بحسب ناشطين محليين.
ويحذر شماس من هذا النهج، وتسليم مجرمي الحرب مناصب حساسة في الدولة الجديدة، مشيراً إلى أن هذه القرارات تزيد من نقمة الشارع السوري، "ونحن نراقب هذا الأمر ونحاربه فوراً". ويؤكد أن سوريا الجديدة يجب أن تؤسس بنهج تطبيق العدالة وتقوم بمشاركة الكفاءات والخبرات من أبناء الثورة، ومن كفوا أيديهم عن دماء السوريين.