أقيمت في "سجن صيدنايا العسكري" قرب العاصمة السورية دمشق، فعالية احتفالية بتأسيس "رابطة معتقلي الثورة السورية"، بمشاركة عدد من الناجين من السجون السورية وذوي المعتقلين والمفقودين.
وأثارت الفعالية التي أقيمت، الجمعة، برعاية وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وبالتنسيق مع وزارة الإعلام، موجة واسعة من الاستياء والانتقادات، إذ تخللتها عروض احتفالية واستخدمت فيها إعلانات تجارية، مما اعتبره ناشطون وصحافيون استخفافاً بآلام المعتقلين وإساءة لضحايا السجن، الذي وصفته منظمة العفو الدولية بـ"المسلخ البشري". وقال أحد الأعضاء المؤسسين للرابطة، حسين نادر، في حديث مع وكالة "الأناضول"، وهو أحد السجناء السابقين في صيدنايا أن "هدف الرابطة توثيق الاضطهاد الذي تعرض له السجناء والدفاع عن حقوق السجناء والضحايا والمطالبة بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، وتعزيز التضامن بين الناجين وعائلات الضحايا". وكتبت إحدى السيدات الحاضرات للفعالية عبر صفحتها في "فايسبوك": "خرجت من سجن صيدنايا اليوم، أغلقت هذا الفصل من حياتي، وأتمنى لآلاف آخرين نهاية مماثلة. رأيت عشرات أمهات وبنات معتقلين مفقودين، التقيت معتقلين سابقين في السجن.. بكينا معاً حتى نهاية البكاء". وبدأت الفعالية بتلاوة آيات من القرآن، أعقبها عرض تمثيلي داخل إحدى الزنزانات، يحاكي ما تعرض له السجناء من تعذيب وإهانة، لكن هذا العرض تحديداً أثار استياءً واسعاً بين السوريين الذين رأوا فيه استهتاراً بدماء الضحايا ومحاولة لتسليع مآسي المعتقلين حسب تعبيرهم، وتكلل كل ذلك بفقرة "عراضة شامية"، ما أثار سخطاً إضافياً، حيث تساءل السوريون عن سبب تكرار هذا الطقس الاحتفالي حتى في مناسبات مأساوية مثل هذه، واعتبره تمثيلاً حرفياً لعبارة "الرقص على الجثث وجراح الآخرين". وبدلاً من الوقوف دقيقة صمت مثلاً على أرواح الضحايا الذين لا يعرف عددهم بدقة، فوجئ الحاضرون بوجود لافتات إعلانية لشركات تجارية مثل "مكي" و"بن الحموي"، إضافة إلى أكشاك تقدم القهوة والشوكولاتة في باحة السجن، ما زاد من حدة الانتقادات واتهامات تحويل المكان إلى موقع ترويجي بدلاً من كونه شاهداً على الجرائم. ولاقى الحدث إدانات واسعة من الناشطين السوريين، الذين اعتبروه إساءة كبرى لمكان يعد رمزاً للمأساة السورية، وعبرت الناشطة وفا مصطفى، التي تحدثت أمام مجلس الأمن عن قضية المعتقلين والمفقودين في السابق، عن غضبها في "فايسبوك". وقالت: "مو المفروض السجون مسكرة؟ مو المفروض تعلمنا من حفلة طلاء سجن اللاذقية؟ مو المفروض قضية المعتقلين هي الأكثر إيلاماً؟! كشك بن الحموي، عراضة، مشاهد تمثيلية! شو قلة الحساسية! شو الاستغلال! كيف في رابطة معتقلين بتعمل حفل إشهار بسجن المفروض إنه ساحة جريمة؟!". وعبّر كثيرون في منصات التواصل الاجتماعي، عن استغرابهم من فتح أبواب السجون للفعاليات بهذه الطريقة من دون أي ضوابط أمنية، رغم أنها كانت مسرحاً لجرائم ضد الإنسانية. وعلّق محمد الخليل، المختص بعلم الآثار والتاريخ، على صور الإعلانات التجارية داخل السجن بالقول: "صور من سجن صيدنايا تظهر تسويقاً تجارياً لبعض المنتجات على جدران السجن. هذا الذي حلَّ بإرث الذين أعادونا إلى الديار ولم يعودوا". بدورها عبّرت زوجة السياسي المعتقل والمغيب قسراً عبد العزيز الخير، فدوى محمود، عن استيائها من هذه الفعالية، ونشرت فيديو علقت فيه من مكان إقامتها في ألمانيا: والحال أن هذه ليست هذه الفعالية الأولى التي تثير مخاوف حول طمس الأدلة المرتبطة بالجرائم في السجون السورية، ففي كانون الثاني/يناير الماضي، انتقد ناشطون بشدة مبادرة أطلقها فريق تطوعي يدعى "سواعد الخير"، قام بطلاء جدران أحد السجون في محافظة اللاذقية، معتبرين ذلك محاولة لمسح آثار الجرائم. وبعد الضجة الإعلامية حينها، اضطر الفريق لحذف الفيديو الذي وثّق الحدث وإغلاق صفحته في "فايسبوك". وعبر عدد من الحقوقيين والناشطين عن مخاوف من أن هذه الممارسات تساهم في ضياع الأدلة التي قد تُستخدم في محاكمات مستقبلية لمحاسبة مجرمي الحرب. كما أصدرت منظمات حقوقية بياناً مشتركاً يدعو السلطات الجديدة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية السجون من العبث، ومنع أي أنشطة قد تؤدي إلى إتلاف الوثائق أو تشويه معالم الجرائم المرتكبة فيها. وعقب موجة الاستياء، أصدرت شركتا "مكي" و"بن الحموي" المشاركتان في الفعالية بيانات اعتذار بشكل منفصل، أكدتا فيهما أنهما لم تعلما بأن الحدث سيثير هذا القدر من الجدل، وأنه تمت دعوتها لهذه الفعالية من الرابطة بالتنسيق مع وزارة الإعلام ووزارة الشؤون الاجتماعية، وجاء في بيان "بن الحموي": "نحن نحرص دائماً على احترام دماء ومعاناة أهلنا، نعتذر إن كان هناك أي سوء فهم حول مشاركتنا، ولم يكن الهدف سوى دعم الفعالية إعلامياً وليس لأي غرض تجاري". أما شركة "مكي" فقالت في بيانها:"شاركنا بناءً على دعوة رسمية من الرابطة، وهدفنا كان فقط تقديم الضيافة للحضور، ولم يكن هناك أي نية للتربح أو الإساءة".
View this post on Instagram
A post shared by شركة مكي _ makki company (@makki_international)
توازياً، نظم أهالي وأصدقاء المعتقلين والمغيبين السوريين وقفة احتجاجية في ساحة المرجة بدمشق، رفعوا خلالها صور أحبائهم المفقودين مطالبين بالكشف عن مصيرهم. وشارك في الاعتصام الناشط الياباني إيشيكو يامادا، الذي ألقى كلمة مؤثرة قال فيها: "اليوم، أخيراً استطعت الوقوف في ساحة المرجة حاملاً صور شهدائنا ومغيبينا مع عائلاتهم. لقد طالبنا بمعرفة مصير المختفين قسرياً وطالبنا بالعدالة. لا أستطيع أن أعبر عن مدى أسفي لأنني لم أستطع إنقاذ المعتقلين، لكنني لن أنسى أسماءهم، ولن أنسى ابتسامتهم وأحلامهم". والتقى الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع قبل أيام بروابط أهالي المعتقلين والمغيبين، وأكد أن السلطات الجديدة ملتزمة بالعمل على تحقيق العدالة الانتقالية، وكشف مصير جميع المعتقلين والمفقودين. إلا أن هذا اللقاء لم يكن كافياً لتهدئة المخاوف، خصوصاً في ظل استمرار حالة الفوضى حول السجون، والقلق من عدم اتخاذ إجراءات جادة لحفظ الأدلة. ويعد ملف المعتقلين والمغيبين في سوريا أحد أكثر الملفات تعقيداً وحساسية. وتشير تقديرات "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" إلى أن أكثر من 100 ألف شخص مازالوا في عداد المختفين في سجون النظام السوري. وكانت منظمة العفو الدولية "أمنستي" قد وثقت في تقريرها العام 2017 بعنوان "المسلخ البشري"، عمليات إعدام جماعية لمعتقلين في سجن صيدنايا، حيث تم شنق الآلاف داخل غرف إعدام تحت الأرض. وبعد سقوط نظام الأسد، حثت منظمات حقوقية دولية مثل "امنستي" و"هيومن رايتس ووتش" السلطات الجديدة على حماية الأدلة المتعلقة بالفظائع، وتأمين الوثائق الحكومية والاستخباراتية، ومواقع الجرائم والمقابر الجماعية لضمان عدم ضياع فرصة تحقيق العدالة لضحايا الاعتقال والتعذيب.