"لماذا تضحك؟ غيّر الاسم فقط، فتصبح القصة عنك"هوراس.منذ اللحظة التي تخطو فيها بقدميك إلى فضاء "اللي شبكنا يخلّصنا"، وحتى قبل دخول قاعة المسرح، تعانقك همهمة، شيء شبيه بالتردد، المعانقة، انتظار الممكن، وامكانية اللقاءات، لقاءات تنتظر أن تحدث. فالمسرح ليس فقط ما يخلق على الخشبة، بل هو أنفاس الجمهور المتشابكة، وثقل الحكايات التي يحملها إلى المساحة التي تجرؤ على احتوائها. وفي هذه المساحة، تقف زينة دكاش لتنسج رواية من التطهير الشخصي والجماعي.لكن هذه المرة مختلفة، لأن زينة اختارت أن تتخطّى الكواليس حيث عملت مع مجموعة من المساجين والمهمشين قسراً باستخدامها العلاج بالدراما كأداة للشفاء والمناصرة، لتعتلي الخشبة وتفلش لنا ذاتها، ليس بالكلمات وحدها، بل أيضاً بالشجاعة التي يتطلبها تحويل الحياة الشخصية إلى عرض مسرحي سيصبح مرآة لجراح وطن بأكمله.لم تخشَ زينة دكاش الضعف يومًا. لم تتجنب الغوص في فوضى الحياة، أو احتضان المحطمين. وفي عملها الأخير، تمدّ الدعوة إلى "أناها"، ليصبح العمل أداء كاشفاً للذات، كنوع يتجاوز السرد الذاتي ليجعل من فعل الشفاء جزءاً من الأداء نفسه.في ما مضى، كان لدينا ما بدا حدوداً واضحة بين ما هو مسرح، اي ما هو نص وأداء وخشبة وممثلين، وما هو علاج. لكن سرعان ما أعيد تشكيل هذه الحدود بشكل كامل، ومنذ التسعينيات، ليصبح الوضع أكثر تعقيداً، ولتبقى أسئلة معلّقة عن كيفية وصولنا إلى هذه اللحظة الثقافية، حيث تُستخدم قصص الناس الشخصية على خشبة المسرح، والتقاء الاتجاهات الاجتماعية والثقافية والفنية التي أدت إلى هذا التدفق الإبداعي الذي يركّز على حميمية الناس، نصاً وأداءً.وأصل إلى السؤال الأكثر صوابية في سياق "اللي شبكنا يخلصنا": كيف حولت زينة دكاش المسرح من مكان تعرض من خلاله قصصها الشخصية الموجعة لأكثر تجاربها المؤلمة، وتعيد هي نفسها التي عانت التجربة الأصلية، تمثيلها؟ وما علاقتنا نحن، بهكذا بوح؟الوجوه المكشوفةبين أصداء الزنازين وضجيج وطن متهاوٍ، ينبثق عرض اللي شبكنا يخلّصنا، حيث تمضي زينة دكاش وجوزيف جول (يوسف شنكر) في مسارٍ محفوف بالأسئلة والبوح، ما بين جراح السجن وأبواب الحرية التي ليست كما نحلم أن تكون. يندمج الضحك بالدمع، ويمدّ الكوميدي سام غزال يده لتخفيف وطأة الموت، وفقدان المعنى كما الأحبة، وسنين الضياع، والعائلات التي لعبت بها الأقدار وأرهقها المصير.تحت قيادة دكاش من وراء الكواليس، كما من الخشبة، يتحول مسرح "مونو" إلى كنبة علاج، حيث يصبح الذاتي مشتركاً، والجراح الفردية مرآة لانكسار الوطن، وطن بشعب يأبى أن يقف أمام مرآته، يرفض أن يبوح أو حتى أن يؤرشف البوح، يخاف شياطين ماضيه، فتتحول إلى مرض عضال، فسرطان، فخوف دائم من الممكن.في لبنان، يُؤجل كل شيء: الشفاء، العدالة، الإصلاح، الكتابة، وتأجيل التأريخ نفسه، لنضيع داخل دوامة اللافرق، ما بين الأمس واليوم، واللامعنى للغد. فتخرج زينة دكاش لتتسلح بالعلاج بالدراما، ولتشهد على التزامها الثابت برفض الواقع. تفلش مع جوزف جول قصصهما. قصص تاريخ سنوات داخل دهاليز سجن رومية، حيث أمضى هذا المسجون من أم لبنانية وأب فلسطيني، أكثر من ثلاثين عامًا خلف القضبان ولم ينل حريته إلا بعد التعديلات القانونية التي جاءت نتيجة عمل دكاش في السجن. ليقف وجهاً لوجه ومعالِجته، ووجهاً لوجه معنا نحن الشعب والجمهور والحاكم والمحكوم، ليعترف بأن الحرية متاهة.لا أدوار متقمصة في هذا العمل. لا قناع يعطي القوة اللازمة للتخفي خلفه، لا مدارس درامية واضحة، ولا حتى حبكات مصطنعة. بل هي وجوه مكشوفة تحكي قصصها كما هي، تفلش مشاعرها من دون تكلّف أو حتى جماليات نصية. تصبح اللغة مشبّعة بالشخصي. ويضيف ظهور سينثيا كرم وماغي فرح، مسجلاً عبر شاشة، أبعاداً إيضافية للعمل: سينثيا كظلّ من ماضي جوزيف، كنوع من التدخل الإلهي-العلاجي في مسيرة كل من فقد حبيباً، وماغي بشخصيتها المألوفة في عالم ينتظر خبر أي منجّم، ليصدق بأنه بخير.الأداء الكاشف للذاتوتأصيله في المسرح العلاجيكل مَن خرج من مسرحية دكاش، شعر بالتعب نفسه الذي نشعر به حين نخرج من عيادة معالج نفسي. الفرق أنه ضحك كثيراً. وبكى كثيراً. وشعر بأنه، بتلصصه على تفاصيل حياة زينة دكاش وجوزف جول اليومية، أصبح أقرب إليهما، وأقرب إلى نفسه. هل ما تقوم به دكاش يندرج تحت تصنيف مسرح السيرة الذاتية، أم هو شيء آخر؟ هل الهدف أن نتعالج بالمسرح؟ ومن منا المقصود بهذا النوع، الجمهور أم المؤدي؟رغم صعوبة تحديد الحد الفاصل اليوم ما بين المسرح والعلاج، علينا أن نتوقف قليلاً عند هذا النوع الذي تقدمه زينة دكاش، التي تخوض تجربة العرض كأداة شفاء أو ما يعرف بـ"الأداء الكاشف للذات"، بعدما كانت وراء تأسيس أول جمعية لبنانية للعلاح بالدراما Catharsis.الأداء الكاشف للذات Self-Revelatory Theatre هو مفهوم طورته معالجة الدراما رينيه إيمونا Renee Emunah ويُعرّف على أنه شكل يقوم فيه المؤدي بابتكار عمل مسرحي مستمد من مشاكل الحياة التي تحتاج إلى الشفاء.توضح ايمونا أوجه التشابه والاختلاف بين "الأداء المسرحي الذاتي أو مسرح السيرة الذاتية" Autobiographical Theater والأشكال الأخرى ذات الصلة، وتعتبر بأن الأداء الكاشف للذات هو شكل من أشكال العلاج بالدراما، يقدم الشفاء والتحول، لكنه نوع فريد من المسرح بعناصر تصلح لأن تتحول الى أداء مقنِع ومؤثر.فيصبح هذا النوع من إعادة سرد تاريخ شخصي، عملية مواجهة مباشرة للمآسي الحالية، ومن خشبة المسرح، ما يسمح بجعل الأداء بحد ذاته موقعاً للتحول والشفاء. وعلى عكس مسرح السيرة الذاتية الذي يعيد سرد التجارب الماضية، يتطلب الأداء الكاشف للذات حضوراً عاطفياً حقيقياً وانكشافاً بلا أقنعة، ممزوجاً بالمسرح والعلاج، ليصبح فنًا مؤثرًا يعزز الشفاء الشخصي والجماعي. رغم تأثيره العميق، ما زال الأداء الكاشف للذات مجالًا غير مستكشف بالكامل في المسرح العلاجي، حيث تظل الأبحاث حوله محدودة وغير شاملة.التوقعات المرتبطة بالعلاج بالدراما، تستند إلى قناعة بأن المسرح يمكنه إحداث تحول ما، وخرق للحائط الدفاعي النفسي المنيع، ذلك لأن الشفاء يمكن أن يتجسّد في أشكال عديدة، مثل التخفيف من الألم، تغيير في المنظور أو السلوك، تقبل الواقع، أو ببساطة السير نحو النمو الشخصي.يعود الاستخدام العلاجي المقصود للمسرح إلى أرسطو في فن الشعر (باليونانية: بويطيقا أو أبوطيقا) حيث رأى أن الغاية من التراجيديا هي: "إحداث حالة من التطهير العاطفي والروحي—تحرير المشاعر العميقة التي ارتبطت في الأصل بتطهير الحواس والروح. والطريقة التي يتم بها استحضار مشاعر الشفقة والخوف هي المحاكاة—مزيج من المشاركة غير المباشرة وتعليق عدم التصديق".ومن خلال هذا النوع من المسرح، تنتقل زينة دكاش من كونها مجرد ممثلة، تعيد صياغة قصة شخصية، إلى ذات هي مادة العرض وأداته. تؤدي دورها كإنسانة تحمل على كتفيها قصصًا لم يعد من الممكن احتجازها في الداخل. هذا الشكل المسرحي يتطلب شجاعة استثنائية، حيث يكون العرض نفسه عملية علاجية في العلن. لا تقدّم دكاش قصتها فحسب، بل تعيشها أمام الجمهور، مما يحول المسرح إلى مساحة مشاركة وجدانية حيث يعيش المشاهدون تجربة الألم والشفاء في آن واحد.أداؤها يتجاوز مفهوم العرض الفني ليتحول إلى تجربة جماعية تشجع على مواجهة الألم باستخدام خشبة المسرح ليس فقط لعرض الواقع، بل للعمل على تغييره. بالنسبة إلى دكاش، الموازنة بين الفن والعلاج مسألة مقدسة. فهي أدركت أن الشفاء لا ينتهي عند انتهاء العلاج. ذلك لأن المجتمع نفسه بحاجة إلى تطهير ذاتي. ولعل المكان الأكثر ملاءمة لهكذا تطهير، هو المسرح.أما عن الفكاهة في العمل، فهي حكماً ليست هروباً، بل ضرورة للتحرّر، هي عنصر أساسي في المسرح العلاجي، إذ تساعد الجمهور على استيعاب الأحداث بشكل أعمق من دون الشعور بالإرهاق العاطفي.عمل دكاش الأخير ليس مسرحياً درامياً علاجياً كاشفاً فقط، بل هو دعوة جريئة ومفتوحة. للمشاهدة، للتفكر، للمواجهة، للجلوس مع عدم الراحة، للضحك وللبكاء. للعبور. هذا العرض هو نداء ينبثق من كشف ذاتي، ليصبح دعوة لكشف وطني. فالحكاية قد يحكيها آخر، لكن، كما يقول هوراس، يكفي أن نضع أسماءنا لتصبح القصة قصتنا نحن.(*) تعرض "اللي شبكنا يخلصنا" على خشبة مسرح "مونو"، الأشرفي-بيروت، طيلة شهر شباط الجاري.