في الذكرى العشرين لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد ثلاث سنوات على تعليق وريثه سعد عمله السياسي، يعود التيّار الأزرق إلى الساحّة مجددًا. ينشط مسؤولوه منذ أسابيع في المناطق السنية لحشد أكبر عددٍ ممكن، يرفعون شعار الاحتفال بسقوط بشّار الأسد، علمًا أنّ الرئيس سعد الحريري، حتّى اللحظة، لم يهنئ حاكم سوريا الجديد الرئيس أحمد الشرع.
تتبدّل الظروف والأحوال في السياسة والأمن، وحال الإهمال السياسي لسُنّة البقاع الشمالي لا يتبدّل ولا يتغيّر. يفتقدون في الملمات والأزمات القيادة الجامعة، والسّند الحاضن، كما هو حاصل منذ 7 أيار حتى سقوط نظام البعث، حيث تعجّ سجون لبنان بأبنائهم بعد أحكامٍ انتقامية جائرة.العلاقة الممنوعةيستذكر سنّة البقاع رفيق الحريري، ليس كقامة وطنية استثنائية فقط، إنما كزعيم منعهم زمن الوصاية السوريّة من أن يحتفوا به كما أرادوا كما منعه من أن يكون أكثر حضوراً بينهم.يقول المحامي حسّان حسن الرفاعي ابن مدينة بعلبك، أن "الرئيس الشهيد منذ اللحظات الأولى لدخوله السياسة عام 1992 مُنِع من النشاط السياسي خارج بيروت. كان متاحاً له تأمين المال للاقتصاد وإعادة الاعمار، كما بات متعارفاً عليه من "تسليم" لبنان إلى سوريا بعد الطائف. كانت السياسة تُصنَع في البوريفاج وعنجر، في بيروت نفسها فخخوا لوائحه عبر "النوّاب الودائع". بعض النشاطات الصغيرة التي حاول القيام بها بقاعًا، بقيت محصورة في البقاع الغربي وعبر أزلام الوصاية كعبد الرحيم مراد وغيره". يضيف الرفاعي "كان البقاع الشمالي مُحَرَّما على رفيق الحريري مثل عكار تمامًا، حتّى النوّاب السُنّة في منطقتنا كان يجري تعيينهم انتخابياً ضمن لوائح "حزب الله" وملزمين بمعارضة رفيق الحريري، وعدم تسميته لرئاسة الحكومة أو منح حكوماته الثقة" ويضيف "من يريد معرفة علاقة رفيق الحريري بسوريا فعليًا عليه مراجعة أقوال الشهود في المحكمة الدوليّة"، يقول الرفاعي.الخزان السنيتُشكّل بلدة عرسال الخزّان السُني الأكبر في البقاع الشمالي (حوالي 40 ألف نسمة)، كان ممنوعًا على أهلها ممارسة أيّ نشاط أو تحرُّك سياسي لا يرضى عنه ضباط المخابرات السورية في المنطقة، العميد علي الصافي في بعلبك، والعقيد يحي حدّاد في الهرمل، حتى أنّ الأخير كان يتدّخل في مشاريع بلديتها وانتخاباتها وصندوقها.
يروي رئيس بلديتها السابق السيد محمد يوسف الفليطي في حديث لـ"المدن" كيف استشف منع الحريري من النشاط السياسي في البقاع الشمالي بعد زيارتهم له في قريطم عام 1998. يقول" فور وصولنا استقبلنا الرئيس الشهيد بحفاوة بالغة على باب القصر، وبادر بالترحيب قائلًا بالحرف "أهلاً بأهل عرسال ببيتكم، أنتو قادرين تزورونا" وطلب من الجميع الخروج "لنحكي عراحتنا". وبعد حديثٍ طويل عن احتياجات البلدة أكّد لنا أمنيته بتوّفر الظروف المناسبة كي نستطيع القيام بواجبنا تجاه أهلنا". في حين أكَّد الشيخ محمد خير الحجيري الذي كان يزور الحريري برفقة المفتي المرحوم الشيخ خليل الميس قول الحريري له أكثر من مرة "انشالله تجي الظروف ونقدر نزوركم ونعمل مشاريع عندكم".
حال مدينة بعلبك وبلدة عرسال ينطبق على سائر بلدات وقرى البقاع الشمالي السنية، من معربون وطفيل إلى حام وعدوس، من شعث والعين إلى الفاكهة ومشاريع القاع، يستذكر الجميع كيف تلقوا نصيحة بعدم المشاركة في مهرجان حاول تنظيمه خريجو مؤسسة الحريري مطلع الألفية في مدينة بعلبك.صعبة مع السٌنَّة ومستحيلة مع الشيعةالمحاولات السنيّة للتواصل مع الرئيس رفيق الحريري بحسب الرفاعي كانت تستجلب "العين الحمرا" من المخابرات السورية ويوجهون لأصحابها اللوم الناعم، ورسائل الرفض، بينما أيّ مساعٍ من العشائر الشيعية في البقاع الشمالي كانت تُعرّض أصحابها للكثير من المتاعب، تُقمَع مباشرة قبل أن تبدأ، كما حصل مع وفد شيوخ عشائر المنطقة في مكتب غازي كنعان عام 1996.فما كان ممنوعاً على سنّة البقاع كان محرماً ومستحيلاً على ابنائه الشيعة.ما بعد الاغتيالعلاقة سُنة البقاع الشمالي برفيق الحريري بدأت فعليًا يوم اغتياله، كحال كثر من اللبنانيين. أحسّوا بفقدان الزعيم والسند. بكوا فيه الأب الذي لم يعرفوه. شعروا باليتم السياسي. رفعوا صوره في منازلهم. شاركوا بكثافة في جنازته، وما تلاها من مظاهرات واحتجاجات حتى خروج الجيش السوري، جاءت بمثابة انتقامٍ من عقود التهميش والإهمال، انتظروا حتّى عام 2018 ليهدوا روحه مقعدًا نيابياً لأول مرة بعد خرق النائب السابق بكر الحجيري لائحة الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر، قبل أن يستعيد الحزب المقعدين السنّيين في انتخابات العام 2022.أمّا عن قادم الأيام والانتخابات تحديدًا، فيؤكّد العارفون بواقع المنطقة ضرورة التريث، فارتدادات الزلزال السوري لم تكتمل بعد... ويتحسر أبناء البقاع أن رفيق الحريري لم يعش ليشهد هذه المرحلة، فعلى الأرجح كانت حكايته معهم لتكون مختلفة.