أقف تحت الدش العصري، ساعةً كاملة، أراقب الماء الساخن ينهمرُ على جسدي ووجهي، في تدفقٍ هادئٍ يكاد يعيدني إلى لحظاتٍ أخرى. دائماً ما أشتهي وفرة الماء، وكيف لا؟ وذاكرتي تحملني إلى ما قبل ثلاثين عامًا، حين كنتُ أستحمُّ مع جدتي ونساء القرية عند نبع ماءٍ في إحدى قرى الساحل السوري. كنّ يتبادلن الأهازيج والضحكات والأحاديث المفعمة بالحياة، بينما يمررن صابون الغار في ما بينهن، ويرشُّ بعضهنَ بعضًا بالماء، بلا اكتراث لدين هذه أو تلك، كأنّ العالم بأسره ينحصر في لحظةٍ من الطمأنينة والحرية.
أُجفف نفسي كما كانت تفعل جدتي، ثم أبدأ بتصفح فايسبوك. كتبت صديقتي منى حاج يحيى، المقيمة في دمشق: "أتعرفن كم أنتن محظوظات؟ المعاناة اليومية التي أعيشها كفتاة سورية لا يمكن أن يتخيلها من لم يختبرها. الاستحمام، هذا الفعل الروتيني اليومي، تحول إلى رفاهية باتت صعبة التحقيق. معركة أخوضها يوميًا في مواجهة البرد، وانقطاع الكهرباء، وشح المياه، وغياب التدفئة".معركةٌ ضروسٌ يخوضها السوريون منذ عهدِ النظامِ البائدِ وحتى يومنا هذا. يواجهونَ البردَ بخوفٍ، والماءَ الباردَ بخوفٍ أشدّ. يتساءلونَ إن كانَ بإمكانِهم تأجيلَ الاستحمامِ ليومٍ ربما لن يأتي. إنها العودةُ إلى زمنٍ مضى، حيثُ يضطرونَ لتسخينِ الماءِ على الغازِ إن وُجِد، أو على مواقدِ الحطبِ المنتشرةِ في أنحاءِ سوريا، حيثُ لا ماءَ ولا كهرباءَ، فقط بردٌ يفتتُ العظام.قبل 1300 عام، عندما قرر الخليفة الأموي، الوليد بن عبد الملك، بناء المسجد الأموي، خاطب الدمشقيين قائلاً: "تفخرون على الناس بأربع خصال: بمائكم، وهوائكم، وفاكهتكم، وحمّاماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس".يُؤكد ابن عساكر في كتابه عن تاريخ دمشق (1169م) أن عدد الحمّامات في المدينة والمناطق المرتبطة بها، بلغ 137 حمّاماً. أما اليوم، فلم يتبقّ في دمشق سوى 8 حمّامات تواصل أداء وظيفتها، وهي حمام نور الدين الشهيد، والقيمرية، والملك الظاهر، والناصري، والبكري، والتيروزي، وأمونة، والشيخ رسلان.ورغم أن هذه الحمّامات كانت مهددة بالاندثار بسبب تراجع عدد مرتاديها، فقد تحولت الآن إلى مقصد يومي للسوريين، الذين يصطفون في طوابير طويلة من أجل الاستحمام. ورغم أن طريقتهم في الاستحمام قد تكون أقرب إلى الطقوس الفولكلورية التي تشبه استحمام نساء قريتي، إلا أن هذه الحمّامات باتت رمزاً يعيد إحياء ذكريات الماضي، ويجسد جزءاً من التراث السوري الذي يصمد أمام التحديات.في المقطورات القديمة، تتقاسم النساء والرجال المساحات في تجربة حمّام تتناغم فيها الأجواء التاريخية مع الطقوس اليومية. ماء ساخن ينسكب في جرن حجري، يتبعه عمل المدلّكين و"المُكيِّسين" (نسبة إلى الكيس الخشن أو الليفة التي يُفرك بها الجسد فيخرج ناعماً ومنيراً)، وهم متخصصون في فنون تلميع الجسد.في أجواء الحمّام التقليدية، تتجمع النساء على مصطبة البهو الحجرية، يعزفن العود في سكينة، غير آبهات بوجود "المُخبرة"، خلافاً لما كان أيام النظام السابق الذي لطالما اعتبر تجمع أكثر من ستة أشخاص خطراً جسيماً، حتى وإن كان ذلك للاستحمام أو عزف العود أو تناول "المجدّرة". كان النظام يعتمد قاعدة "فرِّق تسُد"، ليصدر قرارات بتشميع العديد من الحمّامات الأثرية التي زارها ملوك ورؤساء وفنانون عالميون.في تلك الأيام، كانت الحمّامات تتحول ساحة للتجسس، مع تهم جاهزة للأجانب الذين ارتادوا تلك المعالم التاريخية، أو بسبب التحرش، أو مشاكل النظافة، أو دفع الإتاوات. وتحت وطأة هذه الضغوط، تحولت حمّامات عديدة إلى دكاكين أو مستودعات بتهمة "ممارسة الفحشاء"، وفقاً لإحدى وحدات وزارة الداخلية وقتها، في حين تكتمت الشرطة العسكرية على إغلاق أربعة منازل كانت تمارس بين جدرانها "الفحشاء" فعلاً، كونها تتبع لميليشيات إيرانية في المنطقة. كذلك، انتشرت ظاهرة "القبيسيات" بسرعة، فحصلن على كل الدعم الممكن، ما يعكس تحولًا في المشهد الثقافي والاجتماعي في البلاد.مع ارتفاع أسعار الحمّامات، تحول الاستحمام إلى معركة حقيقية ضد الظروف. فالحمّامات التي تعتمد على المازوت، شهدت تضاعفاً في ثمن الليتر الواحد، أربع مرات، خلال العامين الماضيين. بينما شهدت أسعار المستلزمات، مثل الصابون واللّيف والمناشف، ارتفاعاً بنحو ثلاثة أضعاف. وبينما تتحدث خطط النظام الحالي عن الحاجة إلى ثلاث سنوات لتحسين واقع الكهرباء، أصبح كثيرون يجدون أنفسهم في مواجهة مع الواقع القاسي ودولة جديدة تُبنى على أنقاض دولة خرابة.وفي تعليق في فايسبوك، قال أحد المواطنين: "خدوا راحتكن، ما ورانا شي أصلاً، تعودنا، مع جزيل الشكر للوليد بن عبد الملك الذي عرف مكانة حمّامات السوق العامة. نعيم الدنيا في الحمّام". ولعل هذا بالضبط ما دفع مالك أحد الحمّامات التي ظلت تفتح أبوابها للناس والمارّة، إلى وضع لافتة كتب عليها: "أهلاً بكم، ولو زائرين، لأن الحمّام من دونكم يبقى حجراً بلا روح".