لفافة ورقٍ ابتدأت بها حكاية الدولة العربية الحديثة، كتبها ووقّع عليه مثقفون عرب اجتمعوا سرّاً في أحد بيوت دمشق. خاطوها في جيب مخفيّ داخل حذاء الأمير فيصل نجل الحسين، شريف مكّة، لينقلها معه إلى الحجاز، حيث ستمنح والده شرعية البدء بمفاوضات مع البريطانيين الذين كان يُنتظر منهم دعم مشروع عربي في عالم كان يتحوّل بعنف حينها.
كان في صدارة أولئك المجتمعين سرّاً، الطبيبان أحمد قدري عبدالرحمن الشهبندر ومحمد الشريقي وياسين الهاشمي وعلي باشا الركابي وآخرون، وقد كتبوا اللفافة التي صارت تُعرف بـ"ميثاق دمشق" في منزل نسيب البكري في غوطة دمشق. وكي يؤكدوا مواقفهم أرسلوا مع فيصل خاتمين شخصيين لكل من الشيخ بدر الدين الحسيني، وعلي باشا الركابي، وكانت مطالبهم أن تعترف بريطانيا باستقلال البلاد العربية الواقعة ضمن الحدود التي تبدأ شمالاً: بخط مرسين ـ أضنة، ممتدًا على أورفة وماردين وجزيرة ابن عمر فحدود فارس، وشرقًا: حدود إيران حتى الخليج، وجنوبًا المحيط الهندي (ما عدا عدن)، وغرباً البحر الأحمر والأبيض وحتى مرسين. وأن يتم إلغاء الامتيازات الأجنبية. بالإضافة إلـى عقد تحالف دفاعي بين بريطانيا والدولة العربية المستقلة، وأخيراً أن يجري منح بريطانيا الأفضلية في الشؤون الاقتصادية.ولم يكن من بين ما طالب به المثقفون العرب أي إشارة إلى الخلافة، وهي الفقرة التي أضافها الشريف حسين بنفسه لاحقاً، مرشّحاً نفسه كخليفة "عربي" بدلاً من الخليفة "التركي".مَن يستحضر الرسائل العشر التي تبادلها الشريف حسين مع السير هنري آرثر مكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر، سيجد غرائب العقل السياسي الذي كان يصدر عنه الشريف آنذاك، في مقابل حنكة ودهاء مفاوضه البريطاني. فتارة كان الأخير يعطي للشريف موافقته على الخلافة العربية التي يطلبها، وتارة أخرى يرفض الاعتراف بحدود الدولة العربية، وحيناً يطالبه بالتنازل عن مناطق في أقصى الشمال مثل أضنة ومرسين، وفي كثير من الأحيان أصرّ على استثناء حلب وبيروت من أي دولة مستقلة يحلم بها العرب.في بعض الرسائل، أخبر الشريف حسين، مكماهون، باستعداده للتنازل عن مناطق غربي دمشق، وعن حلب وحمص. وفي نهاية المطاف، انتهت المراسلات بين الرجلين في 10 آذار/مارس 1916، بردٍّ من مكماهون يخبر فيه الشريف حسين بموافقة بريطانيا على مطالبه، بعدما وافق الشريف على استبعاد عدن ومرسين وجنوب العراق وحمص من دولته.لكأن تلك الذهنية السياسية لم تكن على احتكاك بتجربتين مهمتين في المنطقة: جبل لبنان الذي عاش شبه استقلال منذ العقد الثاني من القرن السابع عشر، وتجربة محمد علي باشا الذي استقلّ بمصر بعد تبعات حملات نابليون بونابرت، فبدت كل تلك الطروحات ضرباً من التجريب السياسي الهاوي الذي شاء القدر أن تُبنى عليه المنطقة كلّها لاحقاً وفي مقدّمته سوريا التي نعرفها اليوم.شخوص تلك اللحظات، ستظهر كثيراً في المراحل اللاحقة، وسيكون تأثيرها بالغ الأثر في رسم شكل سوريا واتجاهات نخبتها السياسية وأمزجة شعبها. وسيطلق الشريف حسين رصاصة الثورة العربية الكبرى من شرفة منزله في مكة في 10 حزيران/يونيو 1916، ليبدأ الزحف نحو دمشق التي صدر منها النداء الأول عبر ميثاقها. وفي منتصف ليلة 29 أيلول/سبتمبر1918، وصلت قوات الثورة إلى مشارف عاصمة الأمويين، وعسكرت في ريفها الجنوبي والغربي، وطارت الأخبار بسرعة إلى أهالي دمشق الذين اقتحموا دار البلدية بقيادة الأمير سعيد الجزائري ورفعوا العلم العربي، ليدخل فيصل بعدها إلى دمشق بترتيبات من صديقه الكولونيل توماس إدوارد لورنس، واسع الشهرة، ويدخلها الجنرال إدموند الينبي قائد قوات التجريدة المصرية البريطانية، في مشهد درامي، وتم إبلاغ فيصل في فندق فيكتوريا بأن سوريا ستكون تحت إدارة الفرنسيين وأن عليه أن يخفف قليلاً من أهدافه وينتظر التعليمات من لندن.(الأمير فيصل)عرفت دمشق عندها، للمرة الأولى، "حكومة مؤقتة" شكّلها الأمير الجزائري، ولم تلبث أن حُلّت، لتُستبدل، بعد مخاض عسير، بحكومة رضا باشا الركابي بأوامر من الأمير فيصل. وقال حينها الشاعر اللبناني فؤاد حمزة، ساخراً مما اعتبره فيصل "فتحاً" لدمشق: "بسيفكَ لا بسيف الإنجليزِ/ دخلتَ الشام إيزي ثم إيزي". وستعيش سوريا بدءاً من هذا المنعطف، زمناً مختلفاً، وسيبدأ السوريون بتأسيس مشروع الدولة ورسم خططها وهياكلها، وعلى مدى عامين كاملين سيختبرون تجارب عديدة، ليست بعيدة ممّا يختبرونه اليوم.جرت أحداث كثيرة خلال شهري تشرين الأول والثاني بعد السيطرة على دمشق، وكتب أمين الريحاني في كتابه "فيصل الأول" الصادر العام 1934 في عن مطبعة صادر البيروتية: "إنك إذا تصوّرت هذه الحالة العجيبة، في شكل دائرة نقطتها البلاد السورية وروح النقطة وحياتها الأمير فيصل، ثم تمثّلت السياسات التي ذكرت تحوم حولها وحوله تارة، وطوًرا تجري كالضباب المكهرب تحتها وفوقها، دون محجّة تُعرَف، ودون قصدٍ ظاهرٍ يُدَرك، وأضفتَ إلى ذلك فقدان ركنَين من أركان العظمة السياسية، وهما الأمة المتحدة القوية والتقليدالوطني الحي، تجلّت لكَ الصعوبات التي واجهت الرجل".(يوسف العظمة)رأى فيصل أن الحكومة الأولى التي ستحكم الدولة الجديدة يجب أن تكون ذات طابع "عربي" لا "سوري" وحسب، وكانت يترأسها من دمشق رضا الركابي وسليم موصلي مديراً للصحة، ومعهما من جبل لبنان الوزراء عادل أرسلان معاونًا للحاكم العسكري، واسكندر عمون مديراً للعدلية، ورشيد طليع مديراً للداخلية، ومن بيروت سعيد شقير مديراً للمالية، ومن حلب ساطع الحصري مديرًا للمعارف، ومن العراق ياسين الهاشمي رئيساً لميرة الجيش.عامان من المرحلة الانتقالية عاشتهما دمشق، في ظلّ حكومة كتب عنها الأكاديمي علي محافظة، في ورقة قدّمها إلى المؤتمر السنوي السادس للدراسات التاريخية والذي نظمه معهد الدوحة في بيروت يومي 27- 26 نيسان/أبريل 2019، تحت عنوان "الحكومة العربية في دمشق 1920-1918"، فقال: "إن النخب العربية التي أحاطت بفيصل في تلك الفترة افتقرت إلى الخبرة الإدارية والدربة في بناء الدولة الحديثة. صحيح أن هذه النخب نجحت في تحديد أهدافها السياسية، وهي وحدة أقطار آسيا العربية واستقلالها، لكن قيادتها المتمثلة في الشريف حسين بن علي وأبنائه الأربعة، علي وعبد الله وفيصل وزيد، لم تكن لديها معرفة بالدبلوماسية الحديثة وبأصولها، ولا بالمعاهدات والاتفاقات الدولية. وساهم جهلهم بالتاريخ السياسي والدبلوماسي الأوروبي، وبتاريخ العلاقات بين الدول الأوروبية في العصور الحديثة وبالحركة الصهيونية ونفوذها المتعاظم في الدول الأوروبية، في وقوعهم بسهولة في فخاخ الخداع الدبلوماسي البريطاني".لإدارة شؤون البلاد، عيّنت الحكومة مجلساً للشورى مشكّلاً من قانونيين وعلماء وأدباء، وأصدرت أول جريدة رسمية في دمشق حملت اسم "العاصمة" وصحيفة شاملة تصدر بالعربية أطلق عليها اسم "الحياة" تصدر بواقع ثلاث مرات أسبوعياً وتطبع 7000 نسخة، وترأس تحريرها الدمشقي اليهودي إلياهو ساسون، وموّلها فيصل من ماله الخاص لتبشّر بالتفاهم والعمل المشترك بين اليهود والعرب في منطقة الشرق الأوسط.(إلياهو ساسون)في الشأن القضائي، قامت الحكومة بحلّ المحاكم العثمانية، واستبدالها بمحاكم مدنية، وألغيت الألقاب العثمانية كلقب "باشا" و"بك" و"آغا" وغيرها. وأسّست الحكومة مجمع اللغة العربية بدمشق الذي عُرف بـ"الشعبة الأولى للترجمة والتأليف"، ثم ديوان المعارف وكان رئيسه العلامة محمد كردعلي، ومهمته الإشراف على شؤون المعارف والتأليف وتأسيس دارٍ للآثار والاهتمام بالمكتبات والمخطوطات. وحين تم تحويل ديوان المعارف إلى مجمع للغة العربية، أوكل إليه مشروع إصلاح اللغة العربية، ووضع ألفاظ للمستحدثات العصرية، وتنقيح الكتب، وتشجيع التأليف والترجمة، وهو أقدم مجمع للغة العربية في العالم العربي. كما أعادت الحكومة تفعيل كلّيتي الطب والحقوق، وعيّنت موظفي الدولة والولاة على المدن ومسؤولي الشرطة والأمن الداخلي، وفوّضت فيصل لتمثيل سوريا في المحافل الدولية.وعلى الرغم من إنجازاتها الخدمية والتأسيسية، واجهت حكومة الركابي الفوضى الهائلة التي خلّفتها الحرب، وانتشار الأوبئة والمجاعات والانفلات الأمني، وكان من أبرز تحديات تلك المرحلة القرار الفرنسي باحتلال الساحل السوري انطلاقاً من بيروت واللاذقية وأنطاكية، وبذلك بات الاستقلال هو الهاجس بدلاً من مواصلة العمل على بناء الدولة.فخُّ الانفتاح الدوليبأمرٍ من والده، انطلق فيصل إلى باريس لحضور مؤتمر السلم الذي شاركت فيه 32 دولة وكياناً سياسياً ناشئاً، وتم فيه الاتفاق للمرّة الأولى على تشكيل "عصبة الأمم" والنظام العالمي الجديد بقيادة الخمسة الكبار آنذاك: فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة واليابان. استقبل الفرنسيون فيصل بحفاوة وقلّده الجنرال هنري غورو، قائد الجيش الفرنسي، وسام جوقة الشرف الأكبر. وحين زار لندن، التقاه الملك جورج الخامس، وقلّده بدوره قلادة الفارس الكبير. رحلة فيصل تلك، جمعته باللورد آرثر جيمس بلفور، وزعماء الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية، حاييم وايزمان وهربرت صموئيل. لم يكن ذاك اللقاء هو الأول الذي جمع فيصل بوايزمان، فقد اجتمع معه قبل ذلك في الأردن، وفي هذه المرة وخلال تحضير كل منهما لبيانه المقدّم إلى مؤتمر السلم، وقع الرجلان ما سيُعرف باتفاقية "فيصل وايزمان" والتي تمّت مفاتحته بشأنها في غرفته بفندق الكارلتون، وكانت مكتوبة بالانكليزية لذلك لم يستطع قراءتها، فاستعان بلورنس (لورنس العرب) ليفهم محتواها، ولم يخبرر مستشاريه والوفد المرافق له، فوقّع عليها وكتب على حاشيتها بالعربية "إذا ما نالت العرب استقلالها كما طلبت.."، متمّماً قوله إن ذلك إن حصل سيلزمه بما نصّت عليه الاتفاقية، أما إذا لم يتم الوفاء بما وعدت به بريطانيا العظمى فإنه غير ملتزم بشيء. لتصبح تلك الاتفاقية أول اتفاقية سلام بين العرب والحركة الصهيونية في القرن العشرين، سابقة كامب ديفيد ومسارات التطبيع العربي والاتفاقات الإبراهيمية وصفقة القرن بعقود. وحين عاد فيصل إلى دمشق نظّمت الطائفة اليهودية مسيرة تأييد كبيرة له في شوارع العاصمة، كما يروي إلياهو ساسون في حوار أجري معه لبرنامج "بيت أبي" الإذاعي الذي كان يقدّمه الصحافي الإسرائيلي دان رفيف، ونشرها الباحث مالك سمارة في مجلة "قضايا إسرائيلية" برام الله في العدد 87 - خريف 2022.في باريس، عرض رئيس الوزراء الفرنسي، جورج كليمنصو، على فيصل، تكليفه بإمارة سورية تحت السيطرة الفرنسية، فلم يرفض ولم يوافق، وطلب مهلة للمشاورة، وقفل عائداً إلى بيروت على المدرعة الفرنسية "إدغار كينه" بعدما كان قد رحل إلى فرنسا على متن المدرعة البريطانية "غلاستر".من بين مخرجات مؤتمر السلم كانت "معاهدة فرساي" التي منحت الممتلكات الألمانية والعثمانية الخارجية، للانتدابين البريطاني والفرنسي، وكانت الولايات المتحدة حينها قد قرّرت الدخول البطيء إلى مشهد الشرق الأوسط. ولذلك، اتخذ الرئيس وودرو ويلسون الذي كان أول رئيس أميركي يزور أوروبا، قراراً بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق، مهمتها زيارة المشرق ودراسة أوضاعه، وهي التي أطلق عليها اسم "لجنة كينغ -كراين"، لتنظيم استفتاء شعبي حول حق السوريين في تقرير مصيرهم، وكلّف عبد الرحمن الشهبندر بمرافقتها. وكان من حسنات هذه اللجنة، أن السوريين، وبغية الاستعداد للقائها، نحوا في اتجاه عقد مؤتمر وطني.تجوّلت لجنة "كينغ -كراين" على امتداد الجغرافيا السورية، وأعدّت تقريراً بيّنت فيه أن الغالبية الساحقة من السكان هم من العرب الذين يطالبون بدولة مستقلة استقلالاً كاملاً، ويرفضون فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.المؤتمر السوري الأولأعلن المؤتمر السوري الكبير عن نفسه في حزيران/يونيو 1919 في دمشق. معظم أعضائه التسعين، كان من نواب البلاد السابقين في "مجلس المبعوثان" العثماني، ويتحدرون من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. وكان بين أعضاء المؤتمر، ممثلون عن كافة المناطق والمكوّنات، بمن فيهم يهود سوريا الذين مثّلهم يوسف لينيادو، فيما كانت نسبة ممثلي الساحل السوري ولبنان أقل من غيرهم، بسبب منع الفرنسيين لهؤلاء من المشاركة في المؤتمر.عُقدت جلسات المؤتمر في مبنى "النادي العربي" بالقرب من جسر فيكتوريا في شارع بورسعيد، وتم تنظيم انتخابات أفرزت رئيساً ونواباً وأمانة سر، فكان الرئيس الأول للمؤتمر محمد فوزي باشا العظم، الذي خلفه بعد وفاته هاشم الأتاسي، ومعه في النيابة عبدالرحمن باشا اليوسف ومحمد عزّة دروزة.قرّر المؤتمر إعلان استقلال سوريا ورفض اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، ونظام الانتداب والوصاية السياسية. وورد في بيان استقلال سوريا الذي نتج عنه أن "الأمّة العربية ذات المجد القديم والمدنية الزاهرة، لم تقم جمعياتها وأحزابها السياسية في زمن الترك بمواصلة الجهاد السياسي ولم تُرقْ دم شهدائها الأحرار وتثرْ على حكومة الأتراك، إلا طلباً للاستقلال التام والحياة الحرة، بصفتها أمة ذات وجود مستقل وقومية خاصة، لها الحق بأن تحكم نفسها بنفسها أسوة بالشعوب الأخرى التي لا تزيد عنها مدنية ورقياً".وأضاف بيان المؤتمر، حسب مذكرات محمد عزة دروزة الصادرة عن الجمعية الفلسطينية للتاريخ والآثار: "لقد اخترنا سمو الأمير فيصل بن الملك حسين الذي واصل جهاده في سبيل تحرير البلاد وجعل الأمة ترى فيه رجلها العظيم، ملكاً دستورياً على سوريا بلقب صاحب الملك فيصل الأول، وأعلنّا انتهاء الحكومات الاحتلالية العسكرية الحاضرة في المناطق الثلاث، على أن تقوم مقامها حكومة ملكية نيابية مسؤولة تجاه هذا المجلس في كل ما يتعلق بأساس استقلال البلاد التام، إلى أن تتمكن الحكومة من جمع مجلسها النيابي، على أن تدار مقاطعات هذه البلاد على طريقة اللامركزية الإدارية، وعلى أن تراعى أماني اللبنانيين الوطنية في إدارة مقاطعتهم لبنان ضمن حدوده المعروفة قبل الحرب بشرط أن يكون بمعزلٍ عن كل تأثير أجنبي". وقام دروزة بتلاوة بيان الاستقلال في ساحة المرجة بنفسه، بعدما رفعه هاشم الأتاسي إلى فيصل الذي قبِل بما ورد فيه.كُلّف الركابي مجدّداً بتشكيل حكومة دستورية، بعد إعلان الاستقلال، وعُرضت على المؤتمر الذي منحها الثقة، وكان الهم الأول لها هو إنقاذ الاقتصاد السوري المنهار، فتم استحداث "الدينار السوري" كعملة وطنية، وموّلت الخزينة عبر قرض وطني بضمان طويل الأجل لأراضي الدولة البور. وعلى النقيض من تعاملها مع إدارة أحمد الشرع في وقتنا هذا، رفضت الأسرة الدولية الاعترف بالحكومة السورية المشكّلة آنذاك.في تلك الأجواء المضطربة شُكّلت لجنة لصياغة الدستور برئاسة هاشم الأتاسي، وعضوية سعدالله الجابري ووصفي الأتاسي وحكمت الحراكي وآخرين، توصّلت إلى دستور نصّت أولى مواده على أن حكومة المملكة السورية العربية، حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق الشام. وأن هذه المملكة تشكّل وحدةً سياسية لا تقبل التجزئة وتضم في ما تضمّه سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، كمملكةٍ دستوريةٍ مستقلة تكفل الحريات السياسية والاقتصادية، وحقوق الطوائف الدينية، وتساوي بين المواطنين.ولادة الحياة السياسية السوريةأتاح تأسيس هياكل للدولة، واعتماد دستور للبلاد، الشروع في تدشين حياة سياسية في دمشق، فأعلن الشيخ كامل القصاب، تأسيس حزب أطلق عليه اسم "الحزب الديموقراطي"، وأخذ يناكف حكومة الركابي ويضغط عليها، داعياً إلى إعلان الحرب على فرنسا. أما جمعية "العربية الفتاة" فحوّلت نشاطها إلى شكل أكثر تنظيماً فأسست "حزب الاستقلال العربي" الذي ضمّ شخصيات ستشكل لاحقاً ما يُعرف باسم "الكتلة الوطنية". وظهر "النادي العربي" و"حزب التقدّم"، و"حزب الاتحاد السوري" الذي اختير لرئاسته اللبناني ميشيل لطف الله، وكان في قيادته رشيد رضا وعبد الرحمن الشهبندر وسليم سركيس، إضافة إلى "اللجنة الوطنية العليا" و"الحزب السوري" الذي كان من أعضائه المؤسسين محمد كردعلي، إلى جانب حزب نشأ في مصر تحت اسم "الحزب السوري المعتدل"، وحزب "الاتحاد العربي"، وآخر حمل اسم "حزب سورية الجديدة" تأسس في أميركا.كما ظهرت "الجبهة الشعبية في دمشق" التي أسسها مثقفون من مختلف المدن السورية والبلدان العربية. وما يلفت النظر ظهور حزب سياسي حمل اسم "حزب الله" في مدينة حماة، وكان من مؤسسيه سعيد ترمانيني وعبد السلام الفرجي ومحمد علي وطاهر الداغستاني، انضم إليه لاحقاً صالح قنباز ونجيب البرازي، وامتد إلى حمص وبعلبك وطرابلس ودير الزور. وفي اللاذقية، تأسس "الحزب الوطني العربي" و"النادي الوطني"، و"الجمعية العربية الفلسطينية" التي أعلن عنها في مقرّ النادي العربي بدمشق، وكذلك "الحزب الديموقراطي الإسلامي".من جهته شجّع الملك فيصل المقرّبين منه على تأسيس حزب بدورهم، فنشأ "الحزب الحرّ المعتدل" بقيادة عبدالرحمن باشا يوسف أمير الحج، الذي أسس أيضاً "الحزب الوطني السوري" الذي عُرف بحزب "الذوات"، وفقاً لوديع بشور في كتابه "سورية صنع دولة وولادة أمة" الصادر العام 1996، والذي عدّد المزيد من الأحزاب التي نشأت حينها، ومن بينها حزب "العهد السوري"، وحزب "الشبيبة الوطنية"، وحزب "فتيان الجزيرة"، كما سرد محمد حرب فرزات في كتابه "الحياة الحزبية في سورية" الصادر العام 1955 عن دار الرواد.(رشيد رضا)وسيكتب الشيخ رشيد رضا في نيسان/أبريل 1922 مقالاً في مجلته "المنار"، التي كان يصدرها من منفاه في القاهرة، تحدّث فيه عن الحياة السياسية في سوريا في العهد الفيصلي، وكيف أنها اتسمت بالديموقراطية والحرية والمساواة، وأضاف إن "المملكة السورية أسست ديموقراطية حقيقية، وكانت الحرية بجميع أنواعها، لا سيما حرية الاجتماع، والخطابة، والنشر مما تحسدها عليه سائر البلاد السورية ومصر، وزال من دمشق ما كانت مشهورة به من المبالغة في الحفاوة، والتعظيم للحكام والوجهاء، وشعر الشعب بحرمته وكرامته. لقد أظهرت المملكة التزاماً أكبر بمبادئ العدل المساواة والإصلاح من الانتدابين الفرنسي والبريطاني اللذين حلّا محلها، وكان غير المسلمين مساوين للمسلمين بكل الطرق. وعلى العكس، كان التعامل مع المسلمين سيئاً في ظل الانتداب". وتابع رضا: "ادّعى الفرنسيون إصلاح بلادنا بحجة أننا عاجزون عن النهوض بأمر أنفسنا، لكنهم لم يجلبوا سوى التعصب والمحاباة والإفساد الأدبي والاقتصادي". وقد كتبت عن رضا هذه الانطباعات، إليزابيث ف.تومسون، في مقال نشر بالانكليزية تحت عنوان "RASHID RIDA AND THE 1920 SYRIAN-ARAB CONSTITUTION" وترجمته يسرى مرعي لصالح معهد العالم للدراسات، وتبيّن فيه تومسون أن الدستور العربي السوري الذي ولد العام 1920، كان الأكثر علمانية وديموقراطية في الشرق الأوسط حتى الآن، إذ ضمِنَ مساواة المسلمين وغير المسلمين في ظل القانون وفي حرية المعتقد، ولم يُشِر إلى الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، ولا إلى الدين الإسلامي كدينٍ رسمي للمملكة.وعلى الرغم من انتعاش الحياة السياسية ونشوء التداول الحر للرأي والرأي المخالف، إلا أن الغرب ضرب طوقاً من العزلة على الحكومة السورية آنذاك، عزلة كسرتها دعوة يتيمة وجّهتها بريطانيا لفيصل لحضور مؤتمر سان ريمو في إيطاليا، فلم يشارك واكتفى بإرسال ممثلين عن المملكة السورية، وفي هذا المؤتمر تم إقرار اتفاقية سايكس بيكو.(فارس الخوري) نهايات ترسمها البداياتصبَّ الشارع السوري جام غضبه على حكومة الركابي، بسبب المشاركة في مؤتمر سان ريمو، واتهمها بالعمالة للفرنسيين، ما دفعه إلى الاستقالة، ليجري تكليف هاشم الأتاسي خلفاً له. وتناغماً مع المناخ الشعبي العام، شكّل الأتاسي حكومة جديدة من الصقور، ضمّت يوسف بك العظمة وزيراً للحربية، وعبد الرحمن الشهبندر وزيراً للخارجية، وفارس الخوري للمالية، ورضا الصلح لرئاسة مجلس الشورى، وساطع الحصري للمعارف. وتضمن البيان الأول لتلك الحكومة رفضاً جذرياً لكل مقررات مؤتمر سان ريمو.عاد الارتجال السياسي ليلعب دوره في العبث بمسار الأحداث، وخرجت مطالبات بالتحالف مع الشيوعيين في موسكو أو مع تركيا كمال أتاتورك، للوقوف في وجه التخلي الغربي عن حلم السوريين بالاستقلال، وعقدت بالفعل اجتماعات في حلب جمعت الوزير يوسف العظمة بموفدين أرسلتهم أنقرة، لكن سرعان ما تبيّن أن أتاتورك ينسّق مع الفرنسيين لطهي معاهدة أنقرة على نار هادئة، المعاهدة التي ستمنح لتركيا المناطق الشمالية من سوريا. ولم يبق أمام السوريين حينها سوى صوت واحد يتردّد في كافة المدن والأرياف: إعلان الجهاد والنفير العام.(ساطع الحصري)كانت الفترة التي عاشها الدستور السوري الأول بمضامينه ومواده، 11 يوماً فقط، خلالها أرسل الملك فيصل نوري السعيد مبعوثاً عنه لمقابلة الجنرال غورو، بعدما تعاظمت الحشود الفرنسية شرقيّ البقاع، فرجع السعيد وهو يحمل ورقة تتضمن تهديداتٍ من الجنرال سيعرفها التاريخ باسم "إنذار غورو".طلبات الجنرال غورو الخمسة، شملت القبول الرسمي بالانتداب الفرنسي على سوريا، واعتماد العملة الورقية الذي أصدرها مصرف سورية ولبنان في باريس بدلاً من الدينار السوري، وكذلك القبول بنشر الجيش الفرنسي على طول سكة حديد الحجاز وفي حلب وحمص وحماة، بالإضافة إلى وقف التجنيد الإجباري والتسلّح، وإنزال العقاب بكل من اشترك من السوريين في عمليات عدائية ضد الفرنسيين. وترك الجنرال للملك خياراً من اثنين، إما القبول بتنفيذ طلباته سلماً، أو مواجهة اجتياح عسكري لدمشق وسوريا كلها في حال رفضه.عقد المؤتمر السوري العام في 13 تموز/يوليو 1920 اجتماعاً طارئاً، دان فيه ما طلبه غورو الذي أراد تأكيد إنذاره في اليوم التالي، 14 تموز، والذي يصادف، للمفارقة الساخرة، الذكرى السنوية للثورة الفرنسية التي ألهمت العالم قيم الحرية. فأرسل إنذاراً آخر أكثر تشدّداً، يطلب فيه هذه المرة حلّ الجيش العربي السوري والانسحاب من مجدل عنجر، ومنح فيصل ومن معه مهلة أربعة أيام فقط للرضوخ. فعاد المؤتمر إلى الانعقاد وجدّد رفضه لتنفيذ أي من طلبات غورو، كما دعا فيصل لعقد اجتماع وزاري لمناقشة الموقف النهائي من التهديد الذي بات جدياً جداً.تيارات ثلاثة سترسم مستقبل المشرقتفصلنا عن تلك اللحظة، 105 أعوام، ولدت خلالها تيارات ثلاثة ستتحكّم في مستقبل المشرق العربي وبلاد الشام على وجه الخصوص. ففي الاجتماع العاصف لحكومة فيصل، بدا الملك وغالبية وزرائه ميالين إلى قبول ما طلبه غورو، باستثناء وزيرَين. وأعلن فيصل نهجاً سنجد آثاره في زمننا الحالي، يرضح للإملاءات الخارجية، ويقبل بتنفيذ كل ما يطلب منه.التيار الثاني سيؤسّس له وزير الحربية، آنذاك، يوسف بك العظمة الذي شقّ مساراً سيُعرف لاحقاً بـ"المقاومة"، حين أعلن أنه لن يقبل بسقوط دمشق من دون مقاومة، وقال للملك: هل يأذن لي جلالتكم بأن أموت؟ فأجابه فيصل: وهل يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدمُ؟ أخيراً ردّ العظمة قائلاً: إذاً، فأنا أترك ابنتي الوحيدة أمانة لدى جلالتكم...وذلك وفقاً لما روى أحمد قدري في كتابه "مذكراتي عن الثورة العربية الكبرى" الصادر عن مطبعة ابن زيدون في دمشق العام 1956.أما التيار الثالث، فكان ذاك الذي اجترحه وزير الخارجية، الطبيب والمفكر والزعيم عبدالرحمن الشهبندر، حين جابه الملك، ودار بينهما الحوار التالي:الملك فيصل: أنا أقول لك يا شهبندر، أنا ابن رسول الله، وسأوافق على شروط الجنرال غورو والقيادة الفرنسية. الوزير الشهبندر: وأنا أقول لك يا جلالة الملك، أنا ابن هذا البلد، ولن أوافق على تسليمه لا لغورو ولا لغيره.في 18 تموز/يوليو، اجتمعت حكومة فيصل مجدداً، وقبلت الإنذار رسمياً، وأصدرت أمراً بالانسحاب من مجدل عنجر، وتلقت برقية شكر من غورو على قبول الإنذار، يدعو فيها فيصل إلى تنفيذ جميع بنوده قبل يوم 31 من الشهر ذاته. سارع فيصل إلى حلّ الجيش، فرفض السوريون قراره ونزلوا إلى الشوارع واحتلوا قلعة دمشق واندلعت مواجهات حادة سقط على إثرها 25 قتيلاً و200 جريح، وذهب يوسف العظمة إلى ميسلون، المعركة التي كان يعرف أنها خاسرة، ورغم ذلك أصرّ عليها، ولم يغادر أرضها إلا شهيداً. فرّ فيصل خارج سوريا، وتمّت ترضيته بعرش العراق. وبقي الشهبندر في السنوات الخمس التالية، بين تخفٍّ ونضال سرّي ضد الفرنسيين، يحرّض على الانتفاضة ويفتتح حقبةً ستُعرف في وثائق المؤرخين بالثورة السورية الكبرى.(يتبع في الجزء الثاني: سوريا...مئة عام من الثورة)