عاش العالم، منذ ميثاق الأطلسي الذي صاغه الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، عام 1941، وفق مجموعة من المبادئ والقيم التي تأسست عليها "الأمم المتحدة"، بعد الانتصار على النازية: حق الشعوب بتقرير مصيرها، حقوق الإنسان، حرية التجارة، والسعادة لجميع الدول، صغيرة كانت أم كبيرة، مهزومة كانت أم منتصرة.بالطبع، النظام العالمي المثالي هذا، لم يكن محترماً على الدوام، لا من الدول الكبرى ولا الصغرى. مع ذلك، بقي الأساس السياسي والأخلاقي في العلاقات وفي التضامن الأممي وفي لجم الكثير من الصراعات والأعمال العدوانية والاضطهاد. وعلى أساسه، صيغت الاتفاقيات التي تنظم التجارة والهجرة وصيانة الأمن والحدود وفض النزاعات، وحماية الضعفاء، ومكافحة الجوع، والحق في الصحة والسكن والعمل، وصون الكرامة الإنسانية. كما صيغت القوانين الدولية والمبادئ الحقوقية التي ترسم معنى العدالة وتحدد ركائزها، إن في الدساتير المحلية أو في المواثيق المعولمة.
في مرحلة لاحقة، بعد سقوط جدار برلين والستار الحديدي، عام 1990، بدا العالم متجهاً إلى المزيد من الدمقرطة والتحرر، تعبيراً عن انتصار تلك القيم التي عبّر عنها ميثاق الأطلسي، والتي نجد جذورها في وصايا الرئيس الأميركي وودرو ويلسون (1919).لكن العالم تغيّر كثيراً بعد العام 2001. ففي ربع القرن المنصرم، تكاثرت "الدول الفاشلة" في العالم الثالث، وحل الإرهاب ضيفاً ثقيلاً على الحياة المعاصرة، وفقدت الدول السيطرة على موجات الهجرة المليونية، وتفاقمت أزمة المناخ وظاهرة الجفاف والتصحر بما يشكل كوارث اقتصادية واضطرابات وحروباً على الموارد، وتقهقرت سياسات الرعاية والعدالة الاجتماعية في خضم اقتصادات التنافس المحموم وتركيز الثروات في يد القلة.
لقد حلّ الخوف بدل التفاؤل. وعليه، انبثقت وانتشرت مجدداً أشكال من الفاشية واليمين المتطرف والتعصب الديني، وحركات شعبوية كارهة أولاً للنخب وللعقلانية، وللغرباء والمهاجرين والمغايرين.إنه العالم الجديد الذي سيمثله دونالد ترامب من الآن فصاعداً، وسيكون منسجماً مثلاً مع أوتوقراطية بوتين في روسيا، وفاشية بنيامين نتنياهو وائتلافه العنصري في إسرائيل (والأمثلة تتكاثر في العالم).
إننا أمام مستقبل، لا وزن فيه لمبدأ حق تقرير المصير، لا معنى لسيادة الدول، لا رادع أخلاقياً أو قانونياً لاستخدام القوة. التقهقر إلى عصر السيطرة الاستعمارية في طورها الاحتلالي والاستيطاني والإبادي أيضاً. بل وحتى من دون قناع "التمدين" أو "نشر الحضارة". وستكون السياسة العالمية شبيهة بالصفقات القذرة التي كانت تعقدها الامبراطوريات الاستعمارية تقاسماً للنهب والاستعباد.
ويبدو أن أوروبا نفسها هذه المرة، إضافة إلى كندا(!)، معرضتان للقهر والاستتباع على يد أميركا الترامبية من جهة، والزحف الصيني من جهة ثانية، وأطماع روسيا وطموحاتها الأمبراطورية من جهة ثالثة.وهنا في بلادنا، يبدو أن إسرائيل ستكون وكيلة ترامب في مشاريعه التي ستمحو ليس الجغرافيا الفلسطينية بل الهوية الوطنية للفلسطينيين، إلى حد حرمانهم من أن يكونوا "شعباً" وتحويلهم إلى سكان غير مرغوب فيهم، أو لاجئين لا أحد يريدهم. وأبعد من ذلك، استباحة مصر والأردن والسعودية، وابتزاز الدول العربية بمواردها وبوجودها السياسي.
تحويل العالم إلى خريطة عقارية ومولات تجارية ومنتجعات سياحية، تبدو مهمة مقدسة عند "رجل الأعمال" دونالد ترامب، تتطلب باسم "السلام" أنواعاً من الترهيب والإخضاع والاستعباد والخداع والاستيلاء والقهر السياسي والاقتصادي، أقرب إلى ما كان يرعب جورج أورويل في كتاباته عن التوتاليتارية."أميركا العظيمة" التي يريدها ترامب، هي بالضبط على الضد من أميركا التي تخيلها المؤسسون.
بالطبع، المعادون التقليديون لأميركا، أمثال كوريا الشمالية أو تنظيمات على شاكلة "القاعدة"، وديكتاتوريي العالم الثالث، والأنظمة الاستبدادية من طراز إيران، ليسوا إطلاقاً الرد الطبيعي على ترامب، بقدر ما هم وجه العملة الآخر، أو الخيار الأسوأ.
أما "المقاومة" الأوروبية، فتبدو أضعف بكثير من التعويل عليها، خصوصاً أنها تستسلم بدورها لليمين الشوفيني والعنصري، وتتناسى أكثر من أي وقت مضى تجاربها مع النازية والتعصب القومي وتاريخ الاستعمار.
عالم ترامب، على نسق المزيد من الذكاء الاصطناعي "الغبي"، الخالي من أي مشاعر، والجهل الجماهيري المتفشي، وغوغاء السوشيال ميديا القاتلة، وفساد أصحاب الثروات التريليونية. عالم أسوأ من "الداروينية الاجتماعية": عودة إلى الغابة.