لم يسبق لرئيس حكومة في لبنان أن وضع يده على أحد مصادر الفساد الأساسية بالبلد ألا وهي "شبكة المصالح المتضاربة" والمتمثلة بتقاطع مصالح الخاص والعام لوزراء الحكومة وأصحاب الشأن العام.
في أولى جلسات الحكومة الجديدة اتخذ رئيس الحكومة نواف سلام قراراً استثنائياً لم تشهد أي من الحكومات السابقة مثيلاً له، فقد دعا سلام وزراء حكومته إلى تعليق عضويتهم في النقابات المهنية التي ينتمون إليها، أو في مجالس الشركات والمصارف، والتفرغ الكامل للعمل الحكومي، في خطوة أولى للفصل بين العام والخاص. فماذا يعني ذلك من منظور اقتصادي؟
تضارب المصالح بنظر القانون
ولا يستخفّن أحد بمسألة تضارب المصالح، فتضارب المصالح وإن لم يُعتبر جرماً بنظر القانون اللبناني ولا يعاقب عليه القانون اللبناني سوى في نطاق محدود، إلا أنه يشكّل مصدراً أساسياً وجزءاً لا يتجزأ من الفساد، وعليه فإن قطع خيوط المصالح المتضاربة لاسيما بين العام والخاص، من شأنه أن يحظر إلى حد كبير استغلال الشأن العام لمصالح شخصية.
وتقتصر الضوابط القانونية على تجريم الإستفادة من تقاطع المصالح، ومن بين المواد الواردة في قانون العقوبات المادة 364 التي تعاقب "كل موظف حصل على منفعة شخصية من إحدى معاملات الإدارة التي ينتمي إليها سواء فعل ذلك مباشرة أو على يد شخص مستعار أو باللجوء إلى صكوك ظاهرية" والمادة 354 المتعلّقة بصرف النفوذ والتي تعاقب "من أخذ أو التمس أجراً غير واجب أو قبل الوعد به سواء كان لنفسه أو لغيره بقصد إنالة آخرين أو السعي لإنالتهم وظيفة أو عملاً أو مقاولات أو مشاريع أو أرباحاً غيرها أو منحاً من الدولة أو إحدى الإدارات العامّة أو بقصد التأثير في مسلك السلطات بأية طريقة كانت". لكن تلك المواد وسواها لا تقطع بشكل مباشر ولا تطال مسألة تقاطع المصالح التي يتمتّع بها أصحاب النفوذ لاسيما منها الوزراء كما في كافة الحكومات السابقة.
وعلى الرغم من أن القانون لا ينظر إلى مسألة تضارب المصالح على أنها جريمة، إلا أن لينان وقّع عام 2009 على "اتفاقية الأمم المتّحدة لمكافحة الفساد" التي تنص في مادتها السابعة على "ترسيخ وتدعيم نظم تعزّز الشفافية وتمنع تضارب المصالح" كما تتناول في مادتها الثامنة ضوابط عديدة لضمان نزاهة الموظفين في ممارسة مهامهم في الوظيفة العامة وتحديداً لجهة ضرورة وضع تدابير ونظم "تلزم الموظفين العموميين بأن يفصحوا للسلطات المعنيّة عن أشياء منها ما لهم من نشاطات خارجيّة وعمل وظيفي واستثمارات وموجودات وهبات أو منافع كبيرة قد تفضي إلى تضارب في المصالح مع مهامهم كموظّفين عموميين".
وقد صاغت العديد من الدول المتقدّمة منها فرنسا قوانيناً معنية بمكافحة تقاطع المصالح بين العام والخاص، في إطار مكافحة الفساد واستغلال الشأن العام لتحقيق مكاسب شخصية. ويُنظر إلى تقاطع المصلحة العامة والخاصة على أنها تضارب واستغلال ومكمن مرجّح للفساد، خصوصاً وأنه غالباً ما ترتبط الممارسات الفاسدة لممارسي الشأن العام بعلاقة بين الوظيفة العامة والمصلحة الخاصة.
من هنا تُحسب لرئيس الحكومة نواف سلام خطوة استثنائية هي الأولى من نوعها في اتجاه قطع أحد خيوط الفساد التي تنطلق بشكل أو بآخر من تقاطع المصالح وتضاربها.
تضارب المصالح في لبنان
لم يلتفت أي من رؤساء الحكومات السابقة إلى مسألة تقاطع المصالح بين العام والخاص أقله على مستوى الوزراء كما فعل سلام، على الرغم من ارتكاب العديد من أصحاب الشأن العام من رؤساء حكومات ووزراء ارتكابات أقل ما يقال فيها أنها "فاسدة" ولم يطلهم أي قانون مع بعض الإستثناءات.
ولعل أقرب مثال على مسألة تقاطع المصالح وتضاربها علاقة رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي بقطاع البريد في لبنان. فالشركة التي يرتبط ميقاتي بها بشكل مباشر تسيطر على قطاع البريد في لبنان منذ عام 1999، تم التمديد لها بشكل مشبوه ومن دون مزايدات قانونية عدة مرات، ما جعل من ليبان بوست المستثمر الوحيد لقطاع البريد في لبنان مقابل مبالغ زهيدة جداً يتم تحويلها إلى خزينة الدولة وحرمانها من إيرادات أحد أهم القطاع المنتجة في لبنان.
ولطالما ادعى ميقاتي قطع علاقته بشركة ليبان بوست من خلال تنازله عن حصته في ملكية الشركة لصالح شركة سرادار، غير أن الواقع أن شركة سرادار نفسها تملك حصّة في شركة ليبان بوست وبذلك يكون ميقاتي قد انتقل من الملكية المباشرة في الشركة إلى الملكية غير المباشرة وفي كلتا الحالتين ثمة تقاطع مصالح أنتج أرباحاً بمئات ملايين الدولارات لصالح الشركة في مقابل حرمان خزينة الدولة من الملايين عينها.
وقس على علاقة ميقاتي بقطاع البريد في لبنان، العلاقات التشاركية التضامنية بين سياسيين منهم وزراء ونواب ومؤسسات ومصارف تعود إلى عقود من الزمن ومستمرة حتى اللحظة. وقد شكّلت بشكل أو بآخر التغطية للأزمة المالية المصرفية التي تفجّرت عام 2019. وقد أمّنت تلك العلاقة إبراء غير مُعلن لذمة السلطتين السياسية والمصرفية من مسؤولية الأزمة. ومن خلال الترابط الوثيق بين المصرفيين والسياسيين، باتت سلطة جمعية المصارف تتخطى السلطتين التشريعية والتنفيذية. وإذا نجح سلام بقطع الصلات بين الوزراء والمؤسسات الخاصة والمصارف يبقى الأمل أن تنسحب تلك الضوابط على أعضاء السلطة التشريعية والقضائية وعموم العاملين بالشأن العام.