تنشر جريدة "المدن" نصاً ثنائي الكتّاب: يوليا يوزيك وبسام مقداد. يوزيك، صحافية روسية مستقلة، ومتابعة نشطة للشأن الإيراني منذ سنوات. في العام 2019 اعتقلها الحرس الثوري أثناء زيارة طهران بدعوة رسمية للمشاركة في نشاط إعلامي إيراني. ولم يتم الإفراج عنها بعد أكثر من أسبوع، إلا بعد اندلاع حملة واسعة في كبريات مواقع الإعلام العالمية، وتدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. الثلاثاء، الحادي عشر من الجاري، يصادف مرور السنوية السادسة والأربعين للثورة الإسلامية في إيران. البعض يعتبر أن الثورة لا تزال فتية، لكن عيدها هذه السنة يبدو أقرب إلى الجنازة منه إلى يوم الميلاد. فكل آمال الرئيس الجديد وحكومته التي تقف وراءها شخصيات من العيار الثقيل، أمثال جواد ظريف، روحاني، خاتمي وحفيد المؤسس حسن الخميني، كانت معقودة على المفاوضات مع الأميركيين وإلغاء العقوبات. لكن خامنئي دفن هذه الآمال منذ ثلاثة أيام مضت، وليس لأنه لا يريد هذه المفاوضات، إذ، وبأمر منه، تجري مفاوضات سرية مع الأميركيين منذ فترة. ومن أجل تخفيض التوتر ورفع العقوبات والخروج إلى أسواق النفط الحرة وتحرير أصولها، كانت إيران تقدم التنازلات للأميركيين الواحدة تلو الأخرى. وكانت المفاوضات مع الأميركيين قد انطلقت في عُمان بعد أيام على مقتل إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته.بمناسبة السنويات الماضية كان الملالي يقومون خلالها بجردة حساب إنتصارات السنة المنصرمة في المنطقة، ويعددون الجولات التي كسبوها في الداخل بمواجهة إحتجاجات الإيرانيين الرافضين لنظامهم وآلة قمعه. في السنوية الحالية تحقق أكثر السيناريوهات سواداً بالنسبة لخامنئي: من وهن حماس وحزب الله بسبب الحرب مع إسرائيل، إلى قصف إسرائيل لأنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، وأخيراً سقوط نظام بشار الأسد. وأشد الضربات إيلاماً للنظام الإيراني تمثلت بعودة ترامب إلى البيت الأبيض، وهو الذي يلغي كل الاتفاقيات والسيناريوهات، ويلتقي مع اللوبي الإسرائيلي في العودة إلى سياسة "الضغط الأقصى". وهو ليس معنياً بعقد صفقة مع إيران كما يشيع، إذ أن الشروط التي يضعها هي مطالبة بالاستسلام المتدرج وضمن مهلة محددة لنقل السلطة من خامنئي إلى أولئك الذين يشرعون أبواب سوق النفط والغاز الإيراني والصناعة بأسرها للرأسمال الأميركي. وكأن ترامب يقول لخامنئي "سلم كل شيء، أو ستلقى مصير الأسد". لكن خامنئي، وطالما هو على قيد الحياة، لن يقدم على ذلك مهما كانت الظروف.
اعتاد الملالي في سنويات الثورة على استقبال الوفود المهنئة من "محور المقاومة" وزعمائها. لكن يبدو أن الأمر اختلف هذه السنة، واقتصر حتى الآن على برقية من حزب الله ووفد من حماس جاء يتقاسم مع الملالي "مجد الإنتصار على العدو الصهيوني" فوق أطلال ما تبقى من عمار غزة ومقابرها الجماعية تحت الردم.من السذاجة الافتراض بأن الملالي سيكتفون باستعراض خسارة 46 سنة من الجهود والأموال في سبيل توسيع هيمنتهم، وفرض نظام "ولاية الفقيه"على بلدان المنطقة. فمن البديهي أنهم لن يستسلموا لخسارة لبنان وسوريا من بين الدول الأربع في المنطقة خلال فترة لا تتعدى الشهرين. فقد سبق أن وعد كبار مسؤوليهم بمواصلة العمل في سوريا، وتشكيل خلايا مقاومة النظام السوري الجديد. كما لن يستسلموا بالطبع للوهن الذي أصاب حزب الله بعد حربه مع إسرائيل. فبعد تعثر(؟) استخدام مطار بيروت لاستعادة ما فقده الحزب من أموال وسلاح، ينهمكون الآن في شمال لبنان في تجييش تجار المخدرات والمهربين في سائر قرى وبلدات بعلبك الهرمل لتفجير الوضع على الحدود اللبناية السورية. وأشار الجانب السوري إلى العثور على "أكبر مصنع للكبتاغون في الشرق الأوسط"، بالإضافة إلى 12 مليون حبة من المخدر، بالإضافة إلى أدوات لتزوير الدولار على بعد أمتار من الحدود اللبنانية. ويتداول اللبنانيون الآن نكتة عن واقع الحزب المستجد بعد إبعاده إلى ما وراء الليطاني، ومن ثم إلى ما وراء العاصي، ليصبح إسمه "حزب ما وراء النهرين".بعد صدور مذكرة ترامب في 4 الجاري عن العودة إلى سياسة "الضغط الأقصى" حيال إيران، رد الرئيس الإيراني على المذكرة أمام وفد حماس، بقوله "لن نموت من الجوع". وجاء رفض خامنئي العلني التفاوض مع الأميركيين ليزيد الأمر سوءاً وينهار النقد الإيراني انهياراً تاريخياً بين ليلة وضحاها. ودفع هذا الانهيار الإيرانيين إلى بدء "احتجاجات هادئة"، حيث يطفئون الأنوار ليلاً في كل أنحاء إيران، ويطلون من النوافذ ويهتفون بصوت واحد "الموت لخامنئي". والمقصود ليس الخامنئي فقط، بل وابنه مجتبى، الطامح الرئيسي لخلافة والده. في 8 الجاري أشارت رويترز إلى أن الدولار الأميركي كان في 7 الجاري يساوي في السوق الجانبية 869 500 ريال إيراني، وفي اليوم التالي أصبح يساوي 892 500 ريالاً. ونقل موقع Detaly الإسرائيلي الناطق بالروسية عن الوكالة إشارتها إلى أن الريال فقد من قيمته خلال الشهر الأخير حوالى 11% بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، حيث كان الدولار يعادل 510 000، أي أن الريال فقد خلال هذه الفترة 75% من قيمته.
وكان التلفزيون الإيراني قد أشار الجمعة في 7 الجاري إلى تصريح لخامنئي في لقاء مع العسكريين الإرانيين، والذي رأى فيه بأن " التفاوض مع أميركا ليس حكيماً أو معقولاً أو مشرفاً، ولن يحل مشاكل إيران". ويشير هذا التصريح، من جملة ما يشير إليه، إلى أن الملالي على قناعة راسخة بأن نظام "ولاية الفقيه" هو الحل الوحيد لكل مشاكل إيران. لكن تناسل الأزمات على مدى عمر ثورتهم الإسلامية "القصير"، أظهر أنه حل عاجز، يجعل المشاكل مستعصية على أي معالجة. ويذكر هذا الواقع بنكتة كانت شائعة أيام الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي عن فشل الشيوعية في معالجة مشاكل مجتمعاتها. يُزعم أن فتيين التقيا على الحدود بين الألمانيتين الشرقية والغربية، وبادر الفتى الغربي إلى التباهي أمام زميله بالمنتجات الغربية وتوفرها في المتاجر. الفتى الشرقي، المعتاد على رفوف المتاجر الفارغة في دياره الاشتراكية، كان يرد على زميله لدى التباهي بكل منتج وتوفره، بالقول: "لكن عندنا اشتراكية". وبعد أن ضجر الغربي من ترداد زميله التعبير نفسه، رد عليه بالقول: "ونحن ستكون عندنا اشتراكية يوماً ما". انفرجت أسارير الشرقي، وقال لزميله: "حينها لن يبقى لديكم شيء، وستحل الاشتراكية محل السلع على رفوف متاجركم".من المتوقع حلول أزمة حادة في الفترة القريبة المقبلة، أو أن تتخذ السلطة إجراءات تشرع أبواب السوق على مصراعيها، وتثير موجة احتجاجات جديدة واسعة النطاق. وقد يكون السبب المحفز لاندلاع الإحتجاجات، إلغاء بعض الدعم، أو زيادة أسعار البنزين، كما حدث في نهاية عام 2019 وتسبب في احتجاجات واسعة النطاق مع انقطاع الإنترنت لمدة أسبوعين تقريبًا. والإصلاحيون، والنواة الليبرالية في وزارة المخابرات، وتلك الآوساط في الحرس الثوري التي تؤيد عقد صفقة مع الولايات المتحدة وتقف ضد وراثة مجتبى خامنئي لوالده، يعززون الآن إمكانياتهم، استعداداً لانهيار النظام. وذلك لأن المجموعة الضخمة التي تشكل غالبية الدولة العميقة، لا تريد أن ينتهي بها المطاف إلى كوريا الشمالية وتقبل بنقل السلطة إلى إبن خامنئي.
الأيام المقبلة على النظام، هي أيام سوداء فعلاً. وإذا شن ترامب ضربة عسكرية أو ساعد إسرائيل في مهاجمة إيران، فإن الأزمة الإيرانية تهدد بالتطور إلى حرب إقليمية كبرى.