لليوم الخامس على التوالي تستمر الاشتباكات العنيفة على الحدود الشرقيَّة، في منطقة القصر وجوارها، أصوات القذائف والمدافع تُسمع في المناطق القريبة. كل محاولات التهدئة لم تنفع حتّى الآن، رغم الاتصال الذي أجراه رئيس الجمهوريّة العماد جوزاف عون بالرئيس السوري أحمد الشرع. لكن على الأرض الرصاص والقذائف هي التي تتكلم. هذا وقد نقل الصليب الأحمر اللبناني عددًا من القتلى والمصابين إلى مستشفيات الهرمل وجوارها، فيما الجيش اللبناني يحاول قدر استطاعته ضبط الأمور، سواء عبر محاولات منع إطلاق النار من الجانب اللبناني أو عبر الرد على مصادر النيران السورية. ما أدّى إلى تعرُض بعض عناصره للإصابات.السلاح النوعي العشائريالمعارك تدور رحاها على منطقة جغرافيا واسعة تشمل قرى وبلدات كثيرة، زيتا جرماش، مطربا، حاويك، السمائيات، بلوزة، الصفصافة، الجنطليّة، سقرجا، الفاضلّية المصريّة العقربية. هي بلدات سورية تسكنها عائلات وعشائر شيعية مقربة من حزب الله، وتُشكّل امتدادًا له إلى الداخل السوري. فيما بلدة أكوم ذات الأغلبية السنية تغيب عنها المعارك وأهلها لم يغادروها.
تاريخيًا علاقة العشائر بالسلاح متينة ومادة للتباهي والتفاخر تحت شعار "السلاح زينة الرجال". لكن ما يثير الاستغراب هو كميَّة ونوعيَّة السلاح المتواجدة لدى "جيوش العشائر"، بعضها غير موجود لدى الجيش اللبناني نفسه. وهذا ما ظهر من خلال إسقاط مُسَيَّرتين للأمن السوري بالمضادات الجويَّة، وظهور صواريخ الكورنيت، والرشاشات الثقيلة على الاليات إضافة لمدافع الميدان. وهذه الأسلحة ليست فرديّة، وغير متوفرة لدى تجّار السلاح، ولا تدخل في نوع السلاح المسموح ترخيصه قانوناً. وهنا يُطرح السؤال عن الرابط بين الاشتباكات المُستجدّة وتجدد الغارات الاسرائيلية على الحدود اللبنانية السورية. فهل فتح الحزب مخازنه السريَّة في تلك القرى والبلدات لتسليح العشائر فاستهدفها العدو؟أخطاء الجغرافياحسب البيانات العقاريّة فإن البلدات التي تدور فيها المعارك هي أراضٍ سورية بالكامل، لكن قاطنيها أغلبهم من اللبنانيين الشيعة، من عائلات جعفر وزعيتر وناصر الدين ونون والجمل وعلاو وحمادة وغيرهم.عدم ترسيم وتحديد الحدود الممتدة على طول 330 كلم، بنقاط رسميّة ظاهرة وثابتة، مسَجّلة في محاضر اللجان المشتركة للترسيم، خلقت بحسب الأكاديمي الدكتور عصام خليفة إشكالات حدوديّة كبيرة، بعضها مُعقّد في السلسلة الشرقيّة، بسبب تداخل الجبال وتعرجها. لكن في منطقة الهرمل وحوض العاصي الترسيم والتحديد بمتناول اليد نظرًا لطبيعة الجغرافيا السهليَّة الواضحة والمكشوفة. وعزا خليفة عدم بت الخلافات الحدودية سابقاً وإهمال ترسيمها إلى غياب الإرادة الجديَّة عند النظام السوري السابق، وكذلك التناغم السياسي بينه وبين حزب الله صاحب الوصاية السياسية والدينيّة على أغلب أبناء الهرمل وجواره. وهذا ما كرّس أمرًا واقعًا هو الحلول الرضائية بين الطرفين.أحقاد التاريخظاهر الموضوع ضبط الحدود ومحاربة التهريب ومنع التسلل. لكنّ في حقيقته هو خلاف تاريخي مذهبي بين غلاة السنة والشيعة، ظهر ذلك في حملات مناصري الطرفين على وسائل التواصل الاجتماعي وفي أحاديثهم المباشرة واستحضار التاريخ. فحجم الشتائم والشّعارات المقيتة مفزع، كذلك الشعارات المذهبيّة والدعوات للثأر والانتقام وإراقة الدم.
في المعارك الحالية يسترجع المتقاتلون أي شواهد سابقة لتبرير القتال. من ناحية يسترشد البعض بكلام المرشد الإيراني السيد علي خامنئي "أن المعركة هي بين الجبهة الحسينيّة والجبهة اليزيديّة" في استرجاع للخلاف على حُكْم المسلمين بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. ومن ناحية ثانية سبق وأقدمت الإدارة السورية الجديدة على تغيير اسم مسجد الخميني إلى مسجد السيدة عائشة في منطقة الست زينب في دمشق. ويستذكرون الحرب السورية مؤكدين على عدم مسامحة "حزب الله" على مشاركته في معارك ذبح السوريين وهتك أعراضهم، ووأد ثورتهم في مهدها عام 2011 يجاهرون علانية أن سوريا عادت للحكم الأموي العربي ويبثون المشاهد والفيديوهات الاستفزازية مذهبيًا.ما بعد سقوط الأسدغير خَفي على أحد، أنّ السبب الأساسي لكل ما يحصل هو سقوط حكم آل الأسد في سوريا، النظام الذي شَكّل العمود الفقري للمحور الإيراني في المنطقة العربيّة، وخط الإمداد البري الوحيد لتَزَوّد حزب الله بالسلاح والعتاد حتى المال.منذ سقوط نظام البعث في سوريا، وما له من انعكاسات في الداخل اللبناني، لا يترك الشيخ ياسين علي حمد جعفر (أحد مشايخ عشائر الهرمل) مناسبة إلا ويؤكد فيها على ضرورة الهدوء وحل كل المشاكل بلغة المنطق والعقل وحُسنِ الجوار. دعا في حديث لـ"المدن" إلى صمت كل أبواق الفتن والغرائز وترك الأمور للعقلاء كي يجدوا الحل.وأكّد جعفر أنّ سوريا هي بوابة لبنان إلى العالم العربي والغربي، متسائلا عن جدوى دعوات الجهاد ضدها وما شاكل، وداعيًا إلى ترك الأمور للدولّة والوقوف خلف رئيس الجمهورية والجيش اللبناني. وقال: "نحن مواطنون في دولة وهي من تقرر الحل وحدها. نحن والسوريون تربطنا الجغرافيا والتاريخ والعلاقات الأخوية ويجب ان نبقى كذلك".من جهتها مصادر داخل الإدارة السورية في منطقة القصير السورية أكّدت لـ"المدن" أن زمن "تشبيح" الفرقة الرابعة ولّى إلى غير رجعة. فمن كان يقوم بالتهريب وتشكيل عصابات السلاح والمخدرات وسرقة السيارات ولا يقيم للحدود وزنًا، لم يعد بإمكانه التصّرف بهذه الذهنية.وأضافت المصادر أن هناك حدوداً رسمية ومعابر شرعية هي المدخل إلى سوريا. أما المعابر غير الشرعية فنعمل على اقفالها بشكلٍ نهائي. فيما أمر ترسيم الحدود وتنظيم آلية العبور عبر المعابر الشرعيّة هي صلاحيات السلطات الرسميّة في البلدين وأهل لبنان أهلنا.علاقات القربىعلاقات أبناء الهرمل وقرى الجوار من الجانبين السوري واللبناني هي بحسب أبو محمد عامر (يحمل الجنسيتين) علاقات عمرها مئات السنين، ليست وليدة اليوم أو الأمس. تربطهم الجغرافيا والعادات والتقاليد والمصاهرات، فنجد أفراد العائلة الواحدة منقسمين في السكن والإقامة بين لبنان وسوريا. عشرات العائلات اللبنانيّة لديها ملكيات أراضي بآلاف الدونمات في سوريا. وآلاف اللبنانيين يعتمدون في معيشتهم على التبادل التجاري عبر الحدود سواء التهريب أو عبر المعابر الشرعيّة. والكثير من المنتجات اللبنانية يتم تصريفها في السوق السورية والعكس أيضًا. وهذا يجب أن يُشَكّل حافزا لإيجاد الحلول الحاسمة التي تحفظ هيبة القانون ومصائر الناس وأرزاقهم.