سنة 1924، قامت الجهورية الفرنسية بتعيين مفوض سامي جديد على سوريا ولبنان، ووقع اختيارها على أحد أبطال الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) الجنرال موريس ساراي (1859 ـ 1926). ولكي يلتحق بمقر عمله، كان يتوجب عليه ركوب باخرة مدنية تنقله ومساعديه من مرسيليا إلى بيروت. وبمجرد أن علم بعض أصحاب المال والمصالح التجارية في بلاد الشام بصدور قرار التعيين، أسرعوا بالسفر إلى مرسيليا والمكوث في فنادقها بانتظار موعد انطلاق باخرة المفوض السامي. وقد استأجروا خدمات بعض موظفي المرفأ لكي يخبروهم بموعد خروج باخرة الجنرال، ليقوموا بحجز قمراتهم فيها ومرافقة ساراي أثناء الرحلة التي تمتد لأيام عدة. وقد أصدر أحد الضباط الفرنسيين متوسطي الرتبة، وكان يرافق المفوض السامي في رحلته إلى بيروت، كتابًا طريفًا لوصف مجريات الرحلة والتعليق على تصرفات بعض السوريين، القادمين من دمشق وبيروت وطرابلس وحلب، كما أورد، والمنتمين إلى مختلف الديانات والطوائف، كما أكّد. ولقد تنوّعت هذه التصرفات خلال أيام الرحلة البطيئة بمعايير اليوم. فقد اجتهد أهل الشام هؤلاء في اجتراح الفرص في الأماكن المشتركة محاولين التقرّب من الضابط السامي في سعي دؤوب لبناء علاقة ما معه. جهدهم كان ينصبّ على أن تكون هذه العلاقة مفتاحًا يساعدهم على تيسير أمورهم العملية في البلاد من خلال علاقة خاصة مع صاحب القرار فيها. وقد قاموا بذلك بناءً على تجربتهم السابقة قريبة التاريخ مع ممثلي الإمبراطورية العثمانية من ولاة ومبعوثين. وإن دلّ هذا التصرّف على شيء، فهو يدلّ على ظاهرة اجتماعية تتجاوز المعايير الوطنية من مقارعة الاحتلال -أو الانتداب كما يحلو للفرنسيين تسميته- أو حتى مقاطعته على أقل تقدير، وذلك بهدف المحافظة على المكاسب الذاتية وتعزيزها كمًّا ونوعًا. ولقد غاب عن بعض أهل الشام الساعين إلى "طبخ" -كما يقول الفرنجة- المفوض السامي حتى قبل تسلمه لمنصبه، أن الجنرال ساراي، وعلى عكس الميل التقليدي للعسكريين الفرنسيين إلى أحزاب اليمين، كان هو من نوادر الضباط في الجيش الفرنسي المنتمين إلى اليسار حينذاك، وهو يعتبر أن أهل المال هم من ألدّ خصومه. بالتالي، فقد فشل استثمارهم في هذه الرحلة. بل على العكس، فقد أدى تصرفهم هذا إلى تعزيز موقفه اللافظ لهذه الفئة، وانعكس لاحقًا على علاقته بها.امتدّت هذه الممارسات التي مزجت بين النفاق والتمجّد والتملّق، وصولًا إلى أن تجسّدت أيما تجسّد بعد وصول حافظ الأسد إلى حكم سوريا بانقلابه العسكري سنة 1970. فقد وجدنا أن بعض التجّار العاصمة وسواها قد سعوا فورًا للتقرّب من السلطة الجديدة، كما ورد في مذكرات بدر الدين الشلاّح (1905-1994)، كبير تجّار دمشق. كما قام بعض رجال الدين بتعليق لافتات على بعض المساجد، ومنها الجامع الأموي الكبير العبارة التالية: "طلبنا من الله المدد، فأرسل لنا حافظ الأسد"، كما ورد في كتاب "فلاحو سوريا" لحنا بطاطو.
وتجددت تمارين التمجّد والنفاق حينما أُورِث بشار الأسد الحكم خلفًا لأبيه، واجتهدت فئات تسعى لصالحها بعيدًا عن أي مسؤولية اجتماعية أو وطنية، للوصول إلى بطانة حكمه أو حتى التعيّش على فتات موائده. وتبارى البعض في إظهار مشاعر الوفاء والحب للقيادة "الشابة والواعدة" قبل أن يدفعوا أثمانًا باهظة لهذا الرهان قصير النظر.اليوم، وبعد سقوط الديكتاتور، سارعت هذه الفئة المستدامة من المتلونين وأصحاب المصالح الذاتية العابرة للمنطق وللأخلاق، إلى تعزيز أساليبهم في التملّق محاولين التقرّب من القيادة السياسية الجديدة. معتمدين في ذلك أساسًا على أن ذاكرة السمك هي المهيمنة، وعلى أن تاريخهم "النفاقي" قد يُنسى، وعلى أنه يمكن لهم فتح صفحة جديدة ناصعة البياض في مسار سعيهم لتحقيق مصالحهم بعيدًا عن أي هدف مجتمعي مشترك. إنها ثقافة غارقة في القدم. والتنبيه إلى "عراقتها" قد يُساعد على تحفيز الوعي لدى سلطة الأمر الواقع، ويدفع بها إلى الاعتماد على من "لم تتلوّث أيديهم وذممهم" بالفساد وبطاعة أصحاب السلطة القائمة مهما كانت. هؤلاء، هم أسرع المتحولين والمنقلبين. مصلحتهم تسمو على كل ما عداها.في عام 1902، وإثر وفاة صديقه الإمام عبد الرحمن الكواكبي (1855 ـ 1902)، وفي معرض رثائه من خلال استرجاع نقاشاتهما، كتب الإمام محمد رشيد رضا ((1865-1935: "قلت مرة لعبد الرحمن أفندي الكواكبي رحمه الله، لو تيسر لنا أن نجعل بعض مُحبي الإصلاح المعتصمين بالكتاب والسنة شيوخاً للطريق لأمكن لنا بذلك هداية العامة بسهـولة. ولكن هـؤلاء المصلحون قليلون، ولا يكاد أحد منهم يرضى بأن يكون شيخاً لطريقة من الطرق". فأجابه حينها عبد الرحمن الكواكبي قائلًا: "إننا قد جربنا ما ذكرت، فأقنعنا رجلاً مـن الصالحين المستنيرين فـي حلب بأن يكون مـن شيـوخ الطـريق، فيُرجع العامة عـن بدعهم وخرافاتهم ويهديهم إلى طريق الدين السوي، فقَبِلَ بعـد إباء ونفور. فلما رأى إقبال العامة عليه واعتقادهم صلاحه وبركته، فُتِنَ بذلك وجاراهم في اعتقادهم. فكانوا سبباً لضلاله بدلاً من أن يكونَ سبباً لهدايتهم وخسرناه خسارة لا مطمع فـي رجوعها".