نجح القاضي نوّاف سلام، بعد انقضاء مدّة لا تتعدّى الشهر على تكليفه، في تأليف حكومة يُتوقّع لها أن تحظى بثقة الندوة البرلمانيّة، وذلك بالرغم من الانتقادات المقيتة التي تعرّض لها والحملات الإعلاميّة الشعواء التي شُنّت ضدّه، ومع أنّ معظم أحزاب لبنان لا يزال يتشبّث بذهنيّة تقاسم المغانم وتزيينها للناس عبر خطاب طائفيّ ممجوج.
الدرس الأوّل الذي يمكن استخلاصه من مسار التأليف أن لا عطب في نصوص الدستور من حيث الدور الذي تنيطه بكلّ من رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة، إذا هما تمسّكا بتطبيق الدستور ولم يتلاعبا عليه. إنّ مثل هذا التطبيق لا ينسحب على الحرف فحسب، بل أيضاً على مقاربة تسعى إلى تأويل النصوص الدستوريّة بما ينسجم مع الأخلاق ومصالح الناس. فالدساتير في العالم لم توضع كي يفسّرها المافيويّون والمنافقون وقطّاع الطرق، بل كي يستلهمها ويعمل بها بشر مقتنعون بأنّ السياسة مرجعها الأخلاق، لا المصالح الشخصيّة. إنّ مشهد هذه السرعة "القياسيّة" في تشكيل الحكومة، منذ لحظة تحرّر البلد من وصاية حزب البعث السوريّ البائد، يختلف بشكل فاضح عن المشهديّة التعطيليّة التي هيمنت على تشكيل الحكومات إبّان الأعوام الماضية والعهود السابقة. وهو يشي بأنّ المشكلة ما كانت في النصوص، بل في انعدام الأخلاق لدى الساسة وعطشهم المَرضيّ إلى توسيع دائرة نفوذهم.الدرس الثاني الذي نستمدّه من عمليّة التأليف أنّ القاضي نوّاف سلام، بدعم واضح من رئيس الجمهوريّة، نجح في تقزيم الأحزاب، لكن من دون إقصائها. هو كان قد أعلن قبل أيّام، في ردّه على مّن اتّهمه بتهميش هذه الأحزاب، أنّه يؤثر فاعليّة العمل الحكوميّ على مخاطر التجاذبات بين المكوّنات الحزبيّة في حكومته. من المستغرب أنّ قلّةً عزيزةً من الإعلاميّين توقّفت عند هذا الكلام الخطير. الحقّ أنّ العمل السياسيّ في ديمقراطيّة طبيعيّة لا يستقيم بلا أحزاب. غير أنّ غالبيّة الأحزاب اللبنانيّة لم تتحوّل بعد إلى أحزاب طبيعيّة. فثمّة مَن يحسب أنّه يستمدّ مشروعيّته من السلاح. وثمّة مَن هو ملطّخ بارتباطه بكارتيلات المال والفساد. وثمّة مَن يدّعي النزاهة، لكنّه مصاب بمتلازمة الزعامة المطلقة وقلّة الشفافيّة وعدم الإفصاح عن مصادر تمويله. يضاف إلى ذلك كلّه أنّ معظم أحزاب لبنان اختار أن يفصّل هويّته على مقاس الطائفة، وهو لا يتورّع عن تغذية العصب الطائفيّ خدمةً لمصالحه. لقد فشلت هذه الأحزاب بعد الحرب الأهليّة في قطع حبل السرّة الذي يربطها بالطائفة والمذهب. وأخفقت في بلورة مشاريع وطنيّة تعزّز صدقيّتها وتتيح لها أن تضحي أحزاباً عابرةً للطوائف. لئن كان من الجائز انتقاد بعض الأحزاب العقائديّة، كالحزب الشيوعيّ والحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ مثلًا، على تطرّفها في الخطاب والممارسة، إلّا أنّ تجربة هذه الأحزاب تبيّن، بما لا يقبل الجدل، أنّ العلاقة الوثيقة بين الحزب والطائفة ليست قدراً. فالناس في بلادنا يخفّ التصاقهم بالطائفة، من حيث كونها عمارةً إيديولوجيّة، إذا وفّرت لهم ديناميّة المجتمع بدائل مقبولة، وإذا استقامت أمور الدولة بالنظر إلى الخدمات الأساسيّة، ما يحرّرهم من التزلّف للزعيم وصولاً إلى تقديسه.الدرس الثالث والأخير الذي ينبغي التوقّف عنده يتّصل بتكليف القاضي نوّاف سلام. إنّ بعض أهمّيّة ثورةً 17 تشرين اللاعنفيّة يكمن في وضعها مداميك ممارسة سياسيّة من خارج لعبة الطوائف وأحزابها. من الواضح أنّ النوّاب التغييريّين، الذين أفرزتهم هذه الثورة، يختلفون من حيث تفاصيل خياراتهم السياسيّة. والثابت أنّ بعضهم يجنح إلى اليمين بينما يميل بعضهم الآخر إلى اليسار. وربّما كان بعضهم ضحيّة مثاليّته، أو ضحالة تجربته، أو ارتخائه حيال سعي المافيا الدؤوب إلى تطويقه. لكنّ ما يصعب إنكاره أنّ هؤلاء النوّاب يشكّلون حالةً سياسيّةً لا طائفيّة، ويمثّلون منهجيّةً مغايرةً في تعاطي قضايا الشأن العامّ. وقد خاضوا مؤخّراً معركةً سياسيّةً غايةً في الحنكة أفضت إلى إسقاط خيار نجيب ميقاتي الموصوم بالفساد، وتكليف نوّاف سلام المشهود له بالنزاهة. هذه المعركة أثبتت أنّ الفرق، بخلاف ما روّجت له ماكينات الأحزاب الكبرى، لا يصنعه العدد، ولا ميتافيزياء "الكتلة العظمى"، ولا الاستئثار بالمقاعد النيابيّة المخصّصة لمذهب من المذاهب، بل الاعتصام بممارسة سياسيّة متجرّدة، علمانيّة الطابع، بمعنى أنّها تنأى عن مستنقع الطائفيّة ومّن يمتطي أفراسها بحجّة أنّ الناس مفطورون عليها. والسلام…