عرض رواد غطّاس، لدي "غاليري شريف تابت" (الأشرفية، شارع عبد الوهاب الإنكليزي)، مجموعة من الأعمال يبلغ عددها 24 عملاً، ومن ضمنها عملان ينتميان إلى فئة التجهيز. اتخذ المعرض تسمية Cyclopath (قد تكون ترجمتها إلى العربية "طبيب نفساني")، وقد نُفذت الأعمال المعروضة بحسب تقنيات مختلفة mixed media.استوقفنا معرض رواد غطّاس، وكنا، أنا وأحد الأصدقاء نسير بالقرب من صالة العرض، ذات الواجهة العريضة المفتوحة على الشارع الهادىء، ذي الأبنية التراثية، في أحد أحياء الأشرفية. بعض المعارض الفنية تُرى ضمن سياق معين، يختلف من مكان إلى آخر، ولا بد أن هذا الظرف المكاني يلعب دوراً في المشهدية العامة. ليس من قبيل المصادفة أن تكون واجهات بعض صالات العرض المعروفة في مدينة باريس، وخصوصاً في Place des Vosges، في منطقة الباستيل، مطلّة في معظمها على الساحة الشهيرة، ومفتوحة تماماً، مما يمثل عامل جذب للسياح الكثر، ومن ضمن هؤلاء من يولي الفن التشكيلي اهتماماً خاصاً.
معرض غطّاس يضم أعمالاً ذات نهج تعبيري (من دون الغوص في متفرعات هذا النهج الكثيرة ومتعددة الملامح). اللوحات تمثل قامات بشرية، وطائرات ورقية، في ازدواجية غير متجانسة من حيث الأساس المادي، لكنها ذات معنى بالنسبة للصانع، ومقصودة في ذاتها. فيما يختص بالقامة البشرية، لا بد من ملاحظة أن الأعمال تعكس أسلوباً يتمسك بأصول الرسم، بحسب وجهة نظر خاصة. هذا الأمر يقودنا إلى البحث عن حدود التخطيط وحداثته، من خلال التساؤل عما يقدمه من أفكار تأخذ ما تأخذه من الأصالة الأكاديمية، لكنها تقوم بتحريفها وفقاً للأسلوب الشخصي المذكور، ووفقاً لتقدّم العمل، مع ما يمكن أن يحمله من عناصر مكمّلة للموضوع الأساس، أي الجسد البشري. أمّا في ما يخص الطائرة، أو الطائرات الورقية، مرسومة أكانت أو مادة لتجهيز، فقد نتجت عبر تسللها إلى ذهن الصانع من زوايا الذاكرة الخفية، وقد أتت شفافة من حيث الوقع، وأضافت على المعرض عنصراً مبتكراً ومميزاً.
لن نتأخر في القول إن هناك ما يذكّرنا بأعمال حاييم سوتين (1893- 1943)، (يقول البعض شاييم)، بيلاروسي الأصل، الذي انتقل إلى فرنسا وبقي فيها حتى مماته. عمِل سوتين على العوائق والتوترات التصويرية. وقد دفعه ميله إلى غموض الرسم، منذ نشأة أسلوبه، إلى البحث في تاريخ الرسم وولادته باعتباره "جسدًا". وقد أعلن دي كونينغ، أحد المعجبين بسوتين، إن "الجسد هو السبب وراء اختراع الرسم: أن نكون مهتمين بالجسد يعني أن نكون مهتمين بتاريخ الرسم".
جاءتنا هذه الخاطرة خلال معاينة أعمال رواد غطّاس. وكما فعل سوتين في حينه، تكمن قوة صورأعمال غطّاس، إلى حد معين، عبر الإفراط في "دعم" اللون، مما يقاوم محاولتنا لقراءة شفافة، وهذا ما يتعاكس تماماً مع النهج المتأثر بالإنطباعية. في الأعمال، التي نحن في صددها، سنركز على التأمل في التشرذم، وتفاصيل الجسد و"لحمه" (من لحم) الملوّن الذي يتعدى حضوره الواقعي، ما يجبرنا على ترويض هذه الصور، وفهم ماورائياتها كمعنى لعالم مرئي نعيش فيه بالفعل. وقد نحاول الاقتراب من هذه الأعمال من أجل إيجاد نقاط التواصل معها، من دون التغلب على غموضها، وبالتالي من دون السعي إلى حل لغزها. هذا، مع العلم أن المعاينة يمكن أن تتم من مسافات مختلفة، من دون أن يؤثر ذلك على الإنطباع المبدئي المذكور (كنا راينا الأعمال للمرة الأولى عبر زجاج الصالة، كما أسلفنا). وعلى أي حال يمكن الجزم بأن اللون تحدد لدى غطّاس بـ "الشكل الذي يصنعه"، والذي هو العكس غير المتكوّن للشكل الذي يقدمه الرسام. كما سيكون من الضروري أن نتعمق في تحليل دور الدعم واللون باعتبارهما التعبير الأصلي للعمل. إذ أنّ إعادة التعريف هذه تسمح لنا بالذهاب إلى ما هو أبعد من النقد الذي نمارسه أحياناً، في ضوء التعارض بين الشكل والمادة، المفهوم والحس، أو ببساطة أكثر من خلال التعارض بين الصواب والخطأ، وهذا الذهاب إلى أبعد من ذلك هو ما سيسمح لنا بالغوص في أعمال غطّاس، والقبض على نوايا الفنان الذاتية، ومزاجيته التي لعبت دورها في إخراج مواد المعرض.ومع ذلك، سيكون علينا أن نتحدث بشكل مختلف عن المادة التصويرية لنتجاوز هذه التناقضات. ولا بد من التذكير هنا بـ"أن تاريخ الفن هو قبل كل شيء تاريخ طريقتين لقراءة الصورة وتفسير قضاياها المعقدة في اتجاهين: التقليد والتجسيد"، على ما يفيد الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي جورج ديدي أوبرمان. الاتجاه الأول هو الذي يضع الصورة أمامنا بشكل مستقر، والذي يفترض أنها قابلة للمعرفة، وحتى المعرفة الأكيدة. إن أدوات التمثيل، بالنسبة لهذه الصورة، تتمتع بثراء أيقوني يدعونا إلى اكتشاف المعاني الغامضة التي تخفيها. أما الموقف الثاني، وعلى العكس من ذلك، فلا يفترض أي شيء ثابت، ويعتبر أن جسد الصور هو، من حيث المبدأ، مشرذم حد التمزق، وأنه فجوة، وأن الصورة هي فتحة، وتتعمد تشويش معرفتنا بها، لكن السؤال يبقى دائما، بالنسبة لكلا الموقفين، هو المعرفة أو عدم المعرفة.لقد دفعنا معرض روّاد غطّاس إلى الغوص في بعض المسائل النظرية، من دون أن نحيد عن الموضوع، بل من أجل إثراء النقاش حول الفن "الذي يتطلّب معرفة"، كما اشرنا، كي لا ينصاع بعض المتلقين، وربما أكثرهم، وراء بعض الترّهات التي نصادفها أحيانا، والمتكاثرة في الفترة الأخيرة، وهذا الغوص، الذي يتطلّب مجالاً ومساحة في مناسبات لاحقة، وقع علينا بفضل أعمال غطّاس التي شاهدناها.