"بدنا نحكي عل المكشوف، شبيحة ما بدنا نشوف". بهذا الهتاف الشعبي الغاضب، يمكن القول إن عودة الاحتجاجات الشعبية في سوريا، بعد فترة قصيرة من التحرير، تعكس تطلعات السوريين وإصرارهم على بناء دولة قائمة على أسس العدالة والمحاسبة، وترفض أي شكل من أشكال الفساد أو التهاون في تحقيق العدالة الانتقالية. فالمطالب التي يرفعها المحتجون اليوم ليست مجرد رد فعل عاطفي على بعض القرارات، بل هي جزء من وعي سياسي متنامٍ لدى السوريين، الذين يدركون أن مستقبل بلادهم لا يمكن أن يُبنى على المصالحة الشكلية، أو الاستثناءات الطائفية، أو دون محاسبة حقيقية لكل من أسهم في معاناتهم خلال السنوات الماضية.يؤكد أهالي حي التضامن في حراكهم هذا، ضد فادي صقر أحد قياديي "الدفاع الوطني"، على حقهم في المشاركة في إدارة شؤون بلدهم، وفي إبداء الرأي حول آلية تعامل السلطة الحاكمة مع معايير التسامح والتغاضي عن المتهمين، وضرورة اتباع قواعد العدالة الانتقالية، وعزل شريحة المتهمين عن ممارسة أي عمل عام قبل خضوعهم لمحاكمات نزيهة وعادلة.
إن هذا الحراك يمثل أحد تحديات الحكومة الانتقالية التي قاربت على الرحيل، وكذلك الحكومة المزمع تشكيلها قريباً، ويضع السلطة أمام اختبار حقيقي في كيفية إدارة ملف العدالة والمحاسبة. فهل تتقيد بما تمليه عليها متطلبات العدالة، رغم ما يمكن أن تخسره خلال ذلك من بعض "المصالح". فالشعب السوري الذي واجه سنوات من القمع والاضطهاد، لم يعد مستعدًا لقبول حلول وسطى تُبقي على شخصيات أثارت الجدل، أو متورطين في انتهاكات وجرائم سابقة، ويعاد تدويرهم داخل المنظومة الجديدة.الرسالة التي تحملها التظاهرة اليوم من العاصمة دمشق، تؤكد على الوعي الكبير للشعب بدوره وقدرته على تمييز القرارات وفهم معانيها القريبة والبعيدة، وبالتالي امتلاكه حق قبولها أو رفضها، وأن على السلطات أن تدرك أن الشرعية الشعبية التي اكتسبتها بتحرير سوريا من نظام الأسد، مرهونة بمدى التزامها بمبادئ الشفافية والعدالة والجرأة على تنفيذها، على أي متورط، وإلى أي مكون ينتمي. فالمدانون ليسوا حكراً على طائفة دون سواها، والنظام السوري كان نظاماً "مافيوياً" متعدد الانتماءات الطائفية والقومية، ومتمدداً داخل الحدود وخارجها. والتظاهرة التي كان المتهم (صقر) هو المستهدف بها ليس بسبب طائفته، ولكن لتورطه بارتكابات جسيمة. وكان الأجدر لمن أعطاه حق العودة لأعماله أن ينتظر قول القضاء وحكمه فيه.صحيح أن العدالة الانتقالية لا تعني الانتقام، لكنها أيضًا لا تعني التسامح، أو التساهل مع أولئك الذين لعبوا أدوارًا أساسية في القمع والاستبداد والقتل. فلا يمكن أن تكون هناك مصالحة حقيقية من دون كشف الحقيقة، وتحقيق المحاسبة، وضمان عدم تكرار الانتهاكات. ولتحقيق ذلك، يتعين على الحكومة العمل على إنشاء هيئة مستقلة تُعنى بمتابعة الملفات القضائية المتعلقة بانتهاكات الماضي، على أن تكون هذه الهيئة شفافة، ونزيهة، وتملك الأدوات التي تجعلها قادرة على إنصاف الضحايا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة النظر في الأسماء المطروحة للمناصب الحكومية والإدارية يجب أن تكون جزءًا من عملية إعادة بناء شاملة للمؤسسات، تهدف إلى إعادة الثقة بين السلطة والشعب. فلا يمكن بناء دولة "ديمقراطية" حديثة بأدوات مدانة، أو عبر إعادة تدوير شخصيات فقدت مصداقيتها أمام الشعب. فالسوريون الذين دفعوا أثمانًا باهظة في سبيل حريتهم، لن يقبلوا أن تُدار بلادهم بأيدي من كانوا جزءًا من مأساتهم.إن عودة التعبير عن الرأي بالتظاهرات، وإن كانت في نطاق ضيق، هو مؤشر على أن السوريين لا يزالون متمسكين بحريتهم وواجبهم في مراقبة أداء السلطة الجديدة، والتأكد من التزامها بتعهداتها. فالشعارات التي يرفعونها اليوم ليست مجرد كلمات، بل هي مطالب حقيقية تهدف إلى بناء دولة عادلة، تحترم حقوق مواطنيها، وتحقق لهم تطلعاتهم في الحرية والكرامة والمشاركة السياسية الفعالة. وهذا الحراك يجب أن يُقرأ من قبل صُنّاع القرار، لا كتهديد للأمن، بل كفرصة لتصحيح خطأ الاعتماد على أسماء مدانة شعبياً، والرغبة في نموذج حكم جديد قائم على العدالة والشفافية والمسؤولية، فهل يصبح شعار أهالي ضحايا حيّ التضامن المرفوع في التظاهرات، قابلاً للقياس والتداول؟