يشهد سباق الذكاء الاصطناعي تحولات غير مسبوقة مع دخول قوى جديدة على الساحة. فبينما أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب مشروع "ستارغيت" باستثمارات ضخمة لتعزيز الهيمنة الأميركية، فاجأت الصين الأسواق بنموذج الذكاء الاصطناعي "ديب سيك" المتطور ومنخفض التكلفة، ما أثار تساؤلات حول مستقبل المنافسة التكنولوجية.
وقالت الباحثة إيزابيلا ويلكنسون، في تقرير نشره المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني "تشاتام هاوس" أن العام 2025 يثبت بالفعل أنه عام مليء بالتقلبات في مجال القفزات والاستثمارات في الذكاء الاصطناعي، حسبما نقلت "وكالة الأنباء الألمانية".وفي 19 كانون الثاني/يناير أعلنت الصين عن صندوق استثماري للذكاء الاصطناعي، ينظر إليه على أنه رد على تشديد الولايات المتحدة للرقابة على تصدير الرقائق. وفي 21 كانون الثاني/يناير، أعلن ترامب عن مشروع "ستارغيت"، وهي شركة قال أنها ستستثمر مبلغاً غير مسبوق قدره 500 مليار دولار في تطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، بدعم من شركات التكنولوجيا "أوبن إيه آي" و"أوراكل"، والبنك الياباني "سوفت بنك"، وشركة الاستثمار الإماراتية"إم جي إكس".وفي الأسبوع التالي، تسبب نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني منخفض التكلفة وقليل الاعتماد على الرقائق "ديب سيك" بقدرات استدلالية، في فوضى في الأسواق، بعدما اتضح أنه يمثل تحدياً للمنافس الأميركي "أو 3" التابع لـ"أوبن إيه آي". وتكبدت شركة تصنيع الرقائق العملاقة "إنفيديا" خسائر بقيمة 600 مليار دولار من قيمتها السوقية عند افتتاح الأسواق في 27 كانون الثاني/يناير.وأحدث "ديب سيك" اضطراباً في الافتراضات حول من يمتلك القدرة على تطوير الذكاء الاصطناعي القوي، وأعاد إشعال الشكوك حول فعالية القيود الصارمة التي تفرضها الولايات المتحدة على تصدير الرقائق. وتشير هذه التطورات إلى تحول جذري في حوكمة التكنولوجيا داخل الولايات المتحدة، يتمثل في تركز السلطة في القطاع الخاص فيما يتعلق بتطوير التكنولوجيا وصياغة جدول أعمالها، وهو اتجاه يتسم بالانقسام وعدم القدرة على التنبؤ.ووبحسب الباحثة ويلكنسون، تمثل الحقبة الجديدة غير المتوقعة تحدياً كبيراً لصناع القرار في أوروبا، لكنها قد توفر أيضاً فرصاً محدودة لإظهار القيادة.وألغى ترامب مع توليه منصبه نهج إدارة سلفه جو بايدن في تنظيم الذكاء الاصطناعي، حيث ألغى أمراً تنفيذياً بشأن الذكاء الاصطناعي الآمن والموثوق، والذي كان ينظر إليه على أنه حجر الأساس لنهج الولايات المتحدة في حوكمة الذكاء الاصطناعي محلياً وعالمياً على أساس إدارة المخاطر. كما استخدم سلطته التنفيذية لتعليق ما يعرف بـ"حظر تيك توك"، وأصدر مجموعة من الأوامر التنفيذية الأخرى، التي سيتم الطعن في العديد منها أمام المحاكم.وفجأة، أصبحت القدرة على التنبؤ بسياسة التكنولوجيا الأميركية في أدنى مستوياتها على الإطلاق. وستشعر الشركات الأميركية بمزيد من الجرأة بفضل مكانتها المتميزة، وبدعم من هجمات إدارة ترامب على ما تعتبره تنظيماً مفرطاً من بروكسل.وفي الوقت نفسه، يكشف الحجم الهائل لمشروع "ستارغيت" عن التداخل المتزايد بين الأمن القومي والبنية التحتية ومصالح وادي السيليكون. ويبدو أن المخطط الاقتصادي لـ"أوبن إيه آي" بشأن إعادة التصنيع الأميركي، والذي يعتقد أنه عنصر أساسي في تشكيل "ستارغيت"، يتمتع بنفوذ استثنائي. فهو يدعو إلى إنشاء منشآت سرية لتقييم أمان النماذج، إضافة إلى تطوير موارد طاقة جديدة لتبريد مراكز البيانات.ويتجاوز إعلان ترامب عن شركة خاصة أيضاً العقبات التشريعية المرتبطة بتطوير مشروع ممول من القطاع العام بهذا الحجم، خصوصاً في ظل الحاجة الملحة إلى توسيع قدرة مراكز البيانات لمواكبة الطلب المتزايد.وعلى الصعيد الدولي، أحدث هذا النظام الناشئ صدى واسعاً. فبينما تعمل بروكسل على توضيح القواعد الجديدة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وتطبيق حزمة الخدمات الرقمية، ستزداد جرأة الشركات الأميركية بفعل مكانتها الاستثنائية، وبدعم من هجمات إدارة ترامب على اللوائح الأوروبية المشددة، مثل تهديدات نائب الرئيس جيه دي فانس بشأن مشاركة حلف شمال الطلسي "ناتو" إذا لم تحترم أوروبا ما يسميه "حرية التعبير"، والتي تعني خطاب اليمين المتطرف والنازيين الجدد.وقالت ويلكنسون أنه على مدى العقد الماضي، تزايدت المطالبات بمساءلة عمالقة التكنولوجيا، مع موجة من الإجراءات التنظيمية والعديد من الشركات التي أعادت تفسير أدوارها في الحوكمة بما يتجاوز حدود التكنولوجيا.وقبل عام من الآن، تعهدت أكثر من 20 شركة تكنولوجية بالتصدي لمحتوى الذكاء الاصطناعي المضلل في الانتخابات، مثل تقنية "التزييف العميق". ووعدت تلك الشركات معاً بالحفاظ على نزاهة انتخابات 2024 والعمل على تعزيز ثقة الجمهور. وكان هذا الإعلان ضعيفاً فيما يتعلق بالإجراءات التعاونية القابلة للقياس علناً، لكنه رسم صورة متفائلة عن منافسين يتحدون لحماية الديموقراطية من تهديدات المعلومات التي يولدها الذكاء الاصطناعي.لكن هذا التفاؤل أصبح الآن مجرد ذكرى بعيدة، حيث يتنافس عمالقة التكنولوجيا على النفوذ في نظام سياسي يتعهد بإزالة الضوابط على المحتوى المضلل وغير الآمن، وهو المحتوى نفسه الذي التزموا سابقاً بمكافحته.وقالت ويلكنسون أن البعض ربما يرى هذا التحول لحظة "سقوط القناع"، بينما يراه آخرون مجرد تجل طبيعي لانتهازية مدفوعة بالربح، وخوف الولايات المتحدة من فقدان تفوقها أمام الصين. وفي كلتا الحالتين، يضيف هذا السياق بعداً جديداً للصورة اللافتة التي جمعت بين عمالقة التكنولوجيا، بعضهم من المتبرعين السابقين للحزب الديموقراطي، وهم يجلسون في حفل تنصيب ترامب.وبالنسبة لإدارة الرئيس السابق جو بايدن، كانت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي عموماً حليفين في حوكمة الذكاء الاصطناعي. ورغم التوترات، خصوصاً مع الجدل المستمر حول ما إذا كانت بروكسل تعرقل الشركات الأميركية، فإنهما تبنيا نهجاً قائماً على إدارة المخاطر وشاركا بنشاط في الهيكل الناشئ لحوكمة الذكاء الاصطناعي عالمياً.والآن، يتعين على الحكومات الأوروبية التعامل مع نهج الإدارة الأميركية الجديدة، التي تفضل تحرير تطوير الذكاء الاصطناعي من القيود التنظيمية وتعطي الأولوية لمبدأ "أميركا أولاً"، مع تجاهل التعاون الدولي. كما يجب عليها مواجهة ائتلاف متزايد الجرأة من عمالقة التكنولوجيا الأميركيين الرافضين للتنظيم، والذين يعملون في أسواقها، في الوقت الذي تسعى فيه إلى جذب استثماراتهم.رغم ذلك، تكشف حالة "ديب سيك" حقيقة مهمة غالباً ما يتم التغاضي عنها في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي، حيث من الممكن تحقيق المزيد بموارد أقل. فاستثمار "ستارغيت" الهائل، البالغ نصف تريليون دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، ربما يبدو بالفعل منفصلاً عن الواقع.ومع تراجع الولايات المتحدة عن إعطاء الأولوية للتعاون التكنولوجي العالمي واحتمال تقليص دور "معهد أمان الذكاء الاصطناعي" الأميركي، ستنشأ فجوة في قيادة السلامة العالمية للذكاء الاصطناعي. ورأت ويلكنسون أنه يمكن للمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي اغتنام الفرصة. فالمملكة المتحدة تتمتع بميزة نادرة في مجال أمان الذكاء الاصطناعي، بعدما نسقت "إعلان بليتشلي" العام 2023، الذي ضم الصين والولايات المتحدة، وأطلقت أول معهد في العالم لأمان الذكاء الاصطناعي.