"إلى قيصر سوريا: فريد المذهان"بعد مرور شهرين على سقوط بشار الأسد صار ممكناً الحديث عن سمات عامة لسلوك السوريين، بل من الضروري فعل ذلك. ولئن كان مفهوماً أن تتجه الأنظار إلى السلطة، ومراقبة أية نأمة تصدر عنها، فتعزيز ذلك لا يصبّ في المنحى الذي يريده السوريون. السوريون ثاروا بعد عقود من احتكار السلطة المقترن بالتعامل معهم ككائنات غير مرئية، وليس لها اعتبار حقيقي حتى عندما تُذكر ضمن إنشاءٍ بليد أجوف.أشرنا سابقاً في أكثر من سياق إلى ما أظهره السوريون من حرص على السلم الأهلي، وهو ما يقتضي قليلاً من التفصيل اللائق بما حدث حقاً. فمنذ الساعات الأولى لسقوط بشار، بادر العشرات إلى الاستنفار لمنع مجازر طائفية محتملة، أو عمليات ثأر عشوائية. حدث هذا خصوصاً في مدن وبلدات شهدت في السنوات الماضية مجازر، أو أعمال عنف وخطف استثمر فيها الأسد للتخويف من حرب أهلية فيما لو سقط. وكأنّ الحرب لم تحدث بوجوده، وبإشراف حثيث منه.
اللوحة ليست ناصعة تماماً، فقد كانت هناك أعمال ثأر وانتقام، لكنها في الحد الأدنى، تحديداً من الناس العاديين، وهم نسبة عظمى من أولياء الضحايا. التنويه لا يستثني أولئك الذين طالهم الثأر، ولم ينزلقوا إلى ثأر مضاد. السلاح موجود بمتناول الجميع، والقدرة على استخدامه بلا رادع موجودة أيضاً، لكن السوريين بمعظمهم لم يفعلوا ومنحوا "الدولة" ثقتهم، رغم الإرث غير المشجَّع للدولة؛ منحوها ثقتهم على أمل أن تخالف السلطة الجديدة ما سبقها فتقود مسيرة العدالة، وبقوا على ذلك حتى عندما تسبّبت بالأذى عناصر منها قيل أنها تصرفت بلا توجيه.في إجراء، له بُعد واقعي ورمزي، بادرت مجموعات هنا وهناك إلى تنظيف العديد من الأحياء السكنية إثر سقوط الأسد، أي أنهم لم ينتظروا التحسن المأمول للواقع الخدمي. وقد لا يعلم كثر أن السوريين منذ شهرين يتطوعون بتنظيم السير فيما بينهم حسب الحاجة، حتى في الأماكن التي تشهد عادة اختناقات مرورية حادة. لا وجود لشرطة سير في سوريا بسبب استغناء السلطة عن جهاز الشرطة القديم، وبلا بديل يتولى على الأقل الأماكن الأكثر ازدحاماً. في ظروف استثنائية، قد يتسبب شجار مروري في اندلاع أعمال شغب وعنف واسعة، وبعد مضي شهرين لم يُنشر أي خبر عن مشاجرة كبرى.استغنت السلطة أيضاً عن الشرطة المدنية والجنائية، وفي ليلة إسقاط الأسد شهدت دمشق إطلاق سراح المساجين بلا تمييز، ومن المؤسف أن نسبة السياسيين بينهم إلى الجنائيين لم تكن الأكبر. حدث ذلك من قبل في مدينة حلب، والنتيجة أن أصحاب السوابق الجنائية استغلوا الفراغ الأمني لممارسة عمليات السطو، وعمليات الاختطاف بغرض الحصول على فدية.. إلخ.
تحمّل السوريون الضغط على أمنهم، الناجم عن سوء تدبير، يحدوهم الأمل بسدّ هذه الثغرة الخطيرة قريباً. وسوء التدبير طاول لقمتهم، إذ رُفع سعر الخبز مرتين منذ تولّت السلطة الجديدة الحكم؛ في المرة الأولى ارتفع السعر إلى عشرة أضعاف سعره السابق، وفي المرة الثانية نقص عدد الأرغفة وحجم الرغيف في الربطة التي حافظت على سعرها. ولم يكن حال الغاز المعدّ للاستخدام المنزلي بأفضل، فقد ألغي الدور الذي يمنح المكتتبين سعراً مخفّضاً، لتُباع الأسطوانة بسعر يعادل راتب شهر لبعض المتقاعدين.
الفئة الأخيرة لم تسلم من سوء التدبير، فأُخبر المتقاعدون في حلب مثلاً أن عليهم الإتيان بإخراج قيد جديد لمعاودة استلام رواتبهم في العهد الجديد، إلا أن العديد من دوائر النفوس مغلقة، أي أنهم بقوا بلا رواتب، والحديث هنا عن فئة تجاوز معظمها سنّ العمل. ورفع الأسعار، وعرقلة قبض رواتب بعض الموظفين، لا يستقيمان مع إعلان حاكمة المصرف المركزي توفر رصيد كافٍ لزيادة الرواتب 400%، بل إن وضعهما جنباً إلى جنب لا يعطي انطباعاً لصالح الحكم الجديد.بالتزامن مع عدم إيلاء قضايا الأمن والمعيشة الاهتمامَ اللازم، انشغل المسؤولون الجدد بشكليات من قبيل تخصيص مدخل للنساء وآخر للرجال في جامعة حكومية، مع رقابة على الالتزام بالقرار. وأيضاً توجيه الكادر التدريسي إلى منع جلوس أطفال من الجنسين على المقعد نفسه في المدارس المختلطة، تحت طائلة المسؤولية! ذلك فضلاً عن صرف الجهد في ملاحقة المتحولين أو المثليين، في حين أنه مطلوب بإلحاح ملاحقة المجرمين الفالتين وشبيحة العهد البائد.وصبرُ السوريين على "التناقضات" والعثرات التي تتخلل أداء العهد الجديد لا يرجع إلى خوف منه، موروثٌ من ثقافة الخوف السابقة عليه. صحيح أن معظمهم قد استُضعف في العقد الأخير أكثر من أي وقت مضى، تحت سيطرة الأسد أولاً، وتحت سيطرة الفصائل التي كانت مناوئة له ثانياً، لكنهم يدركون أن السلطة بدورها في أضعف حالاتها. ومع إدراكهم ذلك يريدون لها النجاح، لا حبّاً بها، وإنما من أجلهم ومن أجل البلد، مع التنويه بأن معظم السوريين أنضج من التفكير في العلاقة مع السلطة على قاعدة الحب أو الكره التي يُفترض أن مكانها هو العلاقات الشخصية لا السياسة.كتعبير عن النضج، ومنذ الأيام الأولى على إسقاط الأسد، انبثقت مبادرات عديدة من أجل الانتظام في تيارات سياسية ولجان مدنية، يدرك أصحابها أن التخلص من تركة الأسد يكون بالعمل السياسي، وبأن يأخذوا زمام المبادرة. وهي خطوات لا تكون ضد السلطة، إلا عندما تكون الأخيرة عازمة على احتكار الفضاء العام. أما إذا كانت النية معقودة على التحول الديموقراطي فالمطلوب ملاقاة تلك المبادرات، وبالتأكيد هناك خطوات لا تصب إطلاقاً ضمن المطلوب، مثل تعيين مجالس جديدة للنقابات، بينما من المنطقي أن تدعو السلطة النقابات المعنية إلى إجراء انتخابات حرة.
الحديث دائماً هو عن شعب أُنهك بعقود من الاستبداد والقمع، ثم بوحشية هائلة منذ اندلعت الثورة، وهذا الشعب أظهر خلال الشهرين الأخيرين أفضل ما يمكن توقعه. والقول أنه يستحق الثناء والشكر ليس إطلاقاً من باب الشعارات أو التصدّق عليه، فالسلطة مدينة له بذلك لأن أداءه ساعدها في أحرج الأوقات، ومدينة له بالاعتذار عن التقصير وعن الأخطاء، لأن من واجبها فعل ذلك حتى إذا لم تُطالَب به.الأهم من لياقات الثناء والشكر، أن السوريين برهنوا على أهليتهم، رغم عقود من التعامل معهم كقُصَّر، وهي مسألة تتجاوز الظروف الحالية إلى ضرورة التعاطي معهم كذوات سياسية كاملة الحقوق، أي أنهم يستحقون بجدارة أن يكونوا شركاء في إدارة شؤون بلدهم كأقلّ تعويض مستحَق لهم؛ هذا ما لا يريد رؤيته المنتمون إلى ما قبل الثامن من ديسمبر بكافة مشاربهم.