فتح طوفان الأقصى في غزّة، أبواب السدود الإسرائيلية والأميركية، انهارت حواجز السياسة والأخلاق والقراءات العجولة، وتدفقت أمواج النار التي جرفت تربة فلسطين.
اختيار "طوفاننا" كنقطة بِدْءٍ ليس اختياراً عشوائيّاً، بل هو اختيار نقد ومراجعة ومحاسبة. وهو "قولنا" عنّا، قبل الانتقال إلى قولنا عن "الآخرين".
لقد أخطأت حسابات أهل طوفان غزّة، فكان الخطأ قاتلاً، ومن أراد إعادة تذكير العالم بفلسطين، حسب قوله، أعاد تذكير أعدائه بضرورة العودة إلى أصل مشروعهم التهويدي، الذي لا يتمُّ تحقيقه إلاّ من خلال السيطرة على ما تبقى من أرض فلسطين.
التوقف أمام معاينة الخطأ، له وظيفة فورية الآن، مضمون الوظيفة، الطلب إلى أصحاب الطوفان الانسحاب من المشهد الإعلامي الآن والكفّ فوراً عن عادة رفع "إصبعي" الانتصار. حقيقة الأمر، لقد انساق "الطوفانيون" إلى أمل فوز يحصدونه من حقل دخولهم إلى الأرض السليبة، لكن الأمل سرعان ما انكشف عن فرضية منقوصة، غاب عنها حساب المدى الذي يمكن أن تذهب إليه العدوانية الإسرائيلية. لقد حصل ما حصل، ونتائج ما كان لا تزال تتوالى في ما هو كائن، وفي ما سيكون. ما حصل كان كارثياً، وما هو كائن يفوقه كارثيَّة، وما هو معلن من جانب الأميركي، ينذر بطوفان يقتلع القضية الفلسطينية، ويمهِّد لوضع ختمه الاستعماري على تاريخ صراع بدأ مع هرتزل، وشارف مع نتنياهو وترامب، على ملامسة "سوء الختام".الترامبية الهجومية:من إليانور روزفلت، أرملة الرئيس الأميركي روزفلت، إلى دونالد ترامب الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأميركية. روزفلت لعبت دوراً أساسياً في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، سنة 1948. دونالد ترامب يقود هجوماً ضد هذا الإعلان سنة 2025. الدور الأميركي في دفع الإعلان إلى الوجود، جاء بعد أهوال الحرب العالمية الثانية. الدور الأميركي الحالي يقوده الرئيس الذي أشعل حرباً عالمية تجارية، ما دامت الحرب النووية متعذرة، وأشعل في الوقت ذاته، حرب إخضاع وسيطرة، لمنطقة الشرق الأوسط، من مدخل "النووي" الإيراني، وأوقد نار زعزعة وتبديل خرائط في المنطقة العربية، من مدخل تصفية القضية الفلسطينية، ومن مدخل فرض توزيع أشلائها على عدد من "المقابر" العربية.
قراءة الترامبية اليوم تتجاوز الحماسة التي أعلنها "النضاليون" العرب، وتتجاوز ردّات الفعل العجولة، التي صدرت عن بعض المصادر السياسية، الرسمية والشعبية. موضوع التجاوز تقف خلفه الدعوة إلى رؤية شاملة، يجتمع فيها الاقتصادي والسياسي والثقافي والأخلاقي والإنساني.
اجتماع هذه الصعد يقرّبها من صفة فلسفة جديدة، تشرح ما فات من كل صعيد، وتعدّدُ أسبابه، وتستشرف مستقبله، بكلام فيه من العقلانية الجادّة الضرورية، ما يفوق الكمّ الهائل من اللاعقلانية التي طرحها الرئيس الأميركي الحالي، وفيها التعليل اللازم، والوافي، للإرادوية الترامبية، التي يرى صاحبها أنه "نبيّ العهد" الأميركي الجديد، وأنّه صاحب الإلهام "الإعجازي"، الذي تجلَّت بعض آياته في قرار إخلاء غزّة من سكانها، وفي حملهم قسْراً، إلى فيافي المنافي، ولماذا؟ لإنقاذهم من بؤس ودمار واحتراب، ولتعويضهم عن وطنهم بتوطينهم في أيام مصطنعة، وفي أحلام مصنَّعة، وفي لا تراثٍ ولا جذور ... أي في كل ما يليق بالتراث الأميركي الذي اقتلع سكان أميركا الأصليين، وفي كل ما ينسجم مع منطق الأضرار "الجانبية للحضارة" الرأسمالية، الحضارة التي جرّت آلاف المقتلعين "الهنود" على طول مجرى نهر المسيسبي، والتي نشرت مرض الطاعون بينهم، عندما زوَّدتهم بأغطية ملوّثة بذاك المرض القاتل.المستهدفون بالحضارة:يعلن دونالد ترامب أميركا قوّةً عالمية أولى، ثم يعلنها بلداً لا غنى للعالم عنه، ولأن الأمر كذلك، يضع "الرئيس" خريطة العالم على طاولته، ثم يصدر قرارات بشأن البلاد على طول الخريطة وعرضها.
قرارات الترامبية لها عصب أوحد: الهيمنة. الهيمنة على طريقة الترامبية لها ترجمة واحدة: الكسب المادي. مع هذا الفصل من الأمركة المتجددة، تواجه كل قارّة استهدافاً "كسْبيّاً"، يتناسب ووفرة مواردها، أو يتناقص مع قلّة هذه الموارد. من يملكْ يدفعْ، ومن لا يملك تُنهب مصادر ثروته الأوليّة، وتُقَيَّدُ صفاته الوطنية، وتُنزع منه البنود الأهم مما ضمنه إعلان حقوق الإنسان، خصوصاً في ميادين الكرامة والمساواة والحريّة.
أضرار الحضارة الترامبية، بما هي نسخة الأمركة المحدّثة، تتوزع بتفاوت، ولنقل بنسخ مختلفة، حسب الأجناس القاريّة التي تحلُّ في ربوعها، وآثارها الضارّة تختلف من بلد إلى آخر، بالتناسب مع ما راكمه كل بلد من مواد مانعة، ومن حصانات حاجزة، تحول بين الأمركة وبين تحقيق ما تسعى إليه من إسقاط الجميع بالصفعة الناعمة، أو باللكمة القاضية.
لا تتساوى القارات في آثار أضرار الأمركة، لكنها تتشارك كلها في "معركة" مواجهة هذه الآثار الضارّة. على سبيل التعداد، أو الذِكْر، حال القارة الأوروبية ليست كحال القارة الأفريقية، ولا هي كحال القارة الآسيوية. وداخل كل قارة تتفاوت الأحوال بين "انكلوسكسون" تابعٍ لما تقترحه الولايات المتحدة، وبين ناطقين بلغات أخرى، فرنسية وألمانية وإسبانية و... ودول إسكندنافية. بلاد آسيا، تندرج في ذات سياق تباين الأحوال، وروسيا "المنبوذة" ضمن عالمها الأوروبي، تجمعها شراكة الأذى مع الصين والهند، حتى ولو اختلفت الأولويات والهموم.
ضمن هذا المشهد المعروض في سوق الاندفاعة الترامبية، ماذا عن المنطقة العربية وجوارها؟ وما تصنيف هؤلاء على خريطة الترامبية العالمية.الشرق أوسطية:لدى الحديث عن الشرق الأوسط، تتجه العناية إلى البلاد العربية، وتُلِحُّ ضرورة الوقوف على أحوالها.صورة اليوم، لا تسمح كثيراً بالحديث عن "العرب" كمجموع في الاتفاق على سياق سياسي مُعيّن، ولا تسمح ذات الصورة، بالحديث عن "تنسيقية" عربية، توحد جهد المشرق العربي الكبير، مع مغربه الكبير أيضاً. الخلاصة التي تُبْنى على هكذا واقع، هي خلاصة توقّع دفع مجموع بلاد العرب إلى ظروف سياسية أشدّ قساوةً مما هي عليه الآن، وهي خلاصة الخشية من تعريض "الجمع العربي" إلى مآزق سياسية واقتصادية، وإلى اهتزاز أمني أهلي، في حالة بعض البلدان التي تحمل معضلات تكوينها الأصلي، على يد القسمة الاستعمارية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية. لو أردنا إعطاء اسم للخطر المحدق "بالعرب" في حالة إبداء التردد، أو عدم الاستجابة مع الاندفاعة الترامبية، لقلنا إنه خطر إلغاء الموقع على الخريطة العالمية، ولو طرحنا السؤال على الذات، ما المهمّة الوطنية وما المهمّة العربية التي تترتب على هكذا احتمال، لقلنا، إنها مهمّة المسؤولية عن حفظ سلامة البلاد، وعن صيانة استقلالها، وعن حماية مجتمعاتها، وعن إدارة سياسات جديدة، عنوانها النجاح في حفظ مكان "سليم" وآمن، بين أمكنة الدول العالمية. بكلامٍ آخر، المهمة الأولى هي مهمة البقاء على قيد "الاستعمال"، والحؤول دون سياسة النفي والإهمال، هذا لأن الصراع الحالي تجاوز صراع الحدود إلى صراع الوجود.
كيف تنسحب هذه الخلاصة على الواقع العربي الحالي؟
فلسطينياً، ما المتبقي من وقت ضروري، لإعادة ترميم بعض عناصر القوة الوطنية، ترميماً شاملاً وتوحيدياً، وبعيداً من "السلاحية" التي بلغت نقطة ختامها؟ ليست دعوة للاستسلام أمام الاندفاعة الترامبية، بل هي دعوة للتوقف عن الاستسهال، ودعوة إلى مغادرة النضالية التي تعاني فلسطين اليوم من نتائجها البائسة. قلنا فلسطين، لأنها ستظل المفتاح في لبنان وفي سوريا وفي مصر وفي الخليج العربي. لا تتشابه الأبواب، ولا يتشابه السكان، لكن يجب الإقرار الآن، ومن دون إيديولوجيا سقيمة، إن استعادة مصر إلى عناصر الوزن العربي، يعزّز هذا الوزن، وإن مساندة السعودية في موقفها ضد التطبيع، يعزّز موقعها الثنائي الرمزية: عروبياً وإسلامياً. على ذات الفحص للأوزان، ينتقل فحص عناصر الذات لجمعها، ولتنظيمها ما أمكن، ما دامت المعركة معركة كَسْبٍ أميركي، أي معركة نهب وابتزاز خيرات، تغطيها الترامبية بكثير من فائض القوة "الدولتية"، وبكثير من النرجسيّة "العرقية".
هل يقف العالم على باب الجنون؟ قد يكون الأمر كذلك، بعدما أطلّت على هذا العالم بواكير الترامبية "المتوحشة".