سواء اتفق البعض مع رؤيته الاقتصادية أو اختلفوا معها، وسواء انتُقدت مواقفه تجاه السياسات النقدية التي اعتمدها حاكم مصرف لبنان الأسبق رياض سلامة، أو تعددت الآراء حول توجهاته الاقتصادية ورؤيته في الشأن المالي والاقتصادي اللبناني، يبقى أن الدكتور مروان إسكندر اتخذ موقفًا جريئًا في الكشف عن الأموال المهربة إلى سويسرا. وفي هذه القضية تحديدًا، لا يختلف اثنان على أنه سجل موقفًا يُحسب له في مسيرته، إذ لم يتردد في تسليط الضوء على تفاصيل التحويلات المالية إلى الخارج، ما أثار نقاشًا واسعًا حول شفافية القطاع المصرفي وممارساته.القضية رقم 6737في أواخر عام 2019، أدلى المرحوم الدكتور مروان إسكندر بتصريحٍ أثار ضجة كبرى، حين كشف عن قيام سياسيين لبنانيين بتحويل ما يقارب ملياري دولار إلى مصارف سويسرية خلال أحلك أيام الأزمة المالية، في بلد كانت مصارفه تغلق أبوابها بوجه المودعين، وتحاصر أموالهم بقيود تعسفية، بدا هذا الخبر بمثابة شرارة أوقدت نار الغضب الشعبي.
لم يتأخر المدعي العام التمييزي السابق القاضي غسان عويدات كثيرًا، فسارع إلى تسطير طلب مساعدة قضائية من هيئة التحقيق الخاصة، ومخاطبة وحدة المعلومات المالية السويسرية مستفسرًا عن مصدر هذه الأموال المحوَّلة إلى الخارج. وهكذا، بدأت أولى فصول ما أصبح لاحقًا أحد أكثر الملفات تعقيدًا في تاريخ الفساد المالي اللبناني – القضية رقم 6737.
تابعنا هذا الملف خطوة بخطوة منذ بدايته، وثّقنا جميع إجراءات القضية، أقله ما نُشر منها، وربطنا بالتحليل المنطقي ما خفي منها وأسندناه إلى حقائق ووقائع وتصريحات إعلامية لقضاة ورؤساء لجان وهيئات وسياسيين وأصحاب مصارف. وكانت هذه المتابعة المدخل للعديد من الإجراءات القضائية الجزائية التي تم تقديمها خلال السنوات الماضية. ولإبقاء الحقيقة حرة وحية من دون قيود المناورات القضائية والسياسية، نختصر في نشر وقائع القضية رقم 6737، إكرامًا للحقيقة ولروح من أفصح عنها حين صمت الآخرون.
هذا الملف ليس مجرد تحقيق مالي، بل قصة انهيار الثقة في النظام المصرفي والقضائي اللبناني، حيث تحوّلت المساءلة إلى مناورة سياسية، وضاعت حقوق المودعين في زحمة المصالح المتشابكة، لتصبح مثالًا واضحًا على كيفية دفن الحقائق في دهاليز السياسة والقضاء.البدايةفي 30 كانون الأول 2019، وعقب تصريح الخبير الاقتصادي المرحوم مروان إسكندر، وجّهت النيابة العامة التمييزية كتابًا يحمل الرقم 130/ص/2019 إلى هيئة التحقيق الخاصة، تطلب فيه مساعدة قضائية لمخاطبة وحدة المعلومات المالية السويسرية بغرض تحديد حجم الأموال المحوَّلة إلى سويسرا من 17 تشرين الأول 2019 وحتى 31 كانون الأول 2019، ومعرفة ما إذا كان مصدرها مشبوهًا.
بتاريخ 2 كانون الثاني 2020، استلمت الهيئة الكتاب، وقام أمينها العام عبد الحفيظ منصور في 4 كانون الثاني 2020 بإعداد تقرير سُجِّل تحت الرقم 38/هـ.ت/20. وفي 9 كانون الثاني 2020، اجتمعت الهيئة وأصدرت القرار 1/1/1/2020، طلبت بموجبه من جميع المصارف وعلى مسؤوليتها إعادة دراسة حسابات الأشخاص المعرّضين سياسيًا الذين أجروا تحويلات إلى الخارج خلال الفترة المحددة أعلاه، وتحديد مصدر الأموال.لجنة الرقابة تكشف الأرقامفي 14 كانون الثاني 2020، أصدرت لجنة الرقابة على المصارف مذكرة رقم 1/2020 طلبت فيها من جميع المصارف تزويدها بمعلومات عن التحويلات إلى سويسرا. وفي 5 شباط 2020، قدّم الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف الدكتور سمير حمود تقريرًا إلى المدعي العام التمييزي غسان عويدات، أفاد فيه بأن حجم الأموال المحوَّلة من المصارف اللبنانية إلى سويسرا خلال الفترة الممتدة من 17 تشرين الأول 2019 إلى 14 كانون الثاني 2020 بلغ 2.276 مليار دولار أميركي، منها 60% تمثل تحاويل مرتبطة بعقود ائتمانية.برّي يكشف الأسماء؟في اليوم نفسه، وخلال لقاء الأربعاء النيابي، خلال تلك الفترة، صرّح رئيس مجلس النواب نبيه بري بأن خمسة من أصحاب المصارف قاموا بتحويل 2.3 مليار دولار من أموالهم الشخصية إلى الخارج. وهو تصريح يثير تساؤلات حول كيفية معرفته بهذه التفاصيل، في حين أن النيابة العامة التمييزية لم تعلن أي أسماء أو طبيعة عمل أصحاب الحسابات.
الأرقام ذاتها التي تحدث عنها رئيس مجلس النواب نبيه بري مذكورة في تقرير الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف، الذي يُفترض أن يكون سريًا وموجَّهًا إلى المدعي العام التمييزي غسان عويدات جوابًا على كتابه رقم 130/ص/2019. ولكن عاد المدعي العام التمييزي السابق القاضي عويدات وصرح للإعلام في اليوم نفسه أيضًا، بأن 2.276 مليار دولار تم تحويلها من المصارف اللبنانية إلى مصارف سويسرية، وأن القضاء لم يتبلغ أي أسماء، موضحًا أن 900 مليون دولار فقط قد تكون أموالًا مهرَّبة، فيما اعتبر 60% من المبلغ عقودًا ائتمانية لا شكوك حولها. لكن الغريب، على سبيل القياس، أن هيئة الأسواق المالية السويسرية أصدرت لاحقًا في 18 حزيران 2024 بيانًا يشير إلى إجراءات تنفيذية بحق مصرف HSBC Private Bank (Suisse) SA لانتهاكات مصرفية تتعلق بلبنان تجاوزت 300 مليون دولار، بسبب عدم توثيق العمليات المصرفية بشكل كافٍ. فهل كانت العقود الائتمانية فعلاً لا شكوك حولها كما زُعِم؟تصعيد التحقيقات والتدخل السياسيبتاريخ 6 شباط 2020، وبعد ورود تقرير لجنة الرقابة، طلبت هيئة التحقيق الخاصة من المصارف الإفادة خلال أسبوع عن حجم الحسابات والعمليات التي حُوِّلت إلى الخارج.
وهنا، ومن باب الإشارة، وبالتزامن مع حركة خروج الأموال إلى الخارج، وضمن ملف منفصل، طلبت وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم بتاريخ 18 شباط 2020 من النائب العام التمييزي غسان عويدات توجيه كتاب إلى هيئة التحقيق الخاصة للحصول على معلومات حول سندات اليوروبوند التي يُزعم أن بعض المصارف باعتها إلى مؤسسات دولية للضغط على الدولة اللبنانية. بالرغم من عدم أختصاص هيئة التحقيق الخاصة للنظر في موضوع الطلب، لكن الملف طُمِس لاحقاً كما غيره، وقامت المصارف ببيع سندات اليوروبوند إلى المؤسسات المالية في الخارج بشكل مخالف لأحكام القانون المعتمَد في متن عقد إصدارها. وهكذا، رهنت المصارف اللبنانية مستقبل وسيادة لبنان المالي ودينه لتلك المؤسسات الدولية.
بالعودة إلى الملف الأساسي- القضية رقم 6737، واستكمالًا للإجراءات، التقى رئيس الحكومة السابق حسان دياب بالقاضي غسان عويدات بتاريخ 19 شباط 2020، لمناقشة توسيع التحقيقات، الأمر الذي لم يُسفر عمليًا عن أي نتيجة. وفي اليوم نفسه، أصدرت هيئة التحقيق الخاصة بيانًا تؤكد فيه أن التحقيق مستمر، لكنها لم تكشف عن أي خطوة ملموسة.منع التصرف والمراوغة السياسيةفي 5 آذار 2020، قرر المدعي العام المالي علي إبراهيم وضع إشارة منع تصرف على أصول 21 مصرفًا ورؤساء مجالس إداراتها، لكن في اليوم نفسه، ألغى النائب العام التمييزي السابق القاضي غسان عويدات القرار، بحجة حماية الاستقرار المالي ومنع انهيار النظام المصرفي وغيرها من الأسباب غير العقلانية، ما اعتبره البعض تدخلًا سياسيًا لحماية المصارف. ومن ثم عقد عويدات بتاريخ 10 آذار 2020 اجتماعات ومفاوضات مع جمعية المصارف ووكلائها القانونيين، وتم الاتفاق على سبعة بنود لحماية حقوق المودعين، لكنها بقيت حبرًا على ورق. وهنا نشير الى تحول أعلى سلطة ملاحقة قضائية الى وسيط مفاوض، لربما تبعاً لدقة المرحلة وخطورتها، كي لا نفترض التنازل عن تمثيل الحق العام.
عاد القاضي عويدات وطلب من هيئة التحقيق الخاصة بتاريخ 19 آذار 2020 تزويده بأسماء أصحاب التحويلات، لكن الهيئة رفضت الطب في 23 نيسان 2020، بحجة عدم وجود شبهة، تبعًا لتقرير المصارف الذي قدّمته على مسؤوليتها. بمعنى أن المصارف المطلوب منها تبيان مصير الأموال المهربة هي مَن أكّدت، وعلى مسؤوليتها، عدم وجود شبهة؛ وهنا يَصحّ القول الذي يُطلب بموجبه من المشتبه به أن يحلف اليمين، فيقول: "جاء الفرج".نهاية القضية 6737: لا محاسبةفي 17 أيلول 2020، أصدرت هيئة التحقيق الخاصة تقريرًا نهائيًا زعمت فيه أن التحويلات من حسابات السياسيين بلغت 52.2 مليون دولار فقط، أي ما يعادل 3% من الرقم الأساسي المُعلن!
بالمحصلة، انتهت التحقيقات من دون استرداد أي أموال تُذكر، حتى من دون تحديد هوية المسؤولين عن تحويل مليارات الدولارات إلى الخارج، سواء تهريباً أو تحويلاً أو من خلال سياسة التسهيلات التي منحها مصرف لبنان الى المصارف سندًا للتعميم الأساسي رقم 6116 وتعديلاته التي وقّع عليها النائب الأوّل للحاكم وسيم منصوري قبل انتهاء ولاية الحاكم الأسبق رياض سلامة، ثم استلم منصوري لاحقًا الحاكمية بالإنابة وترأس هيئة التحقيق الخاصة بحكم القانون إلى جانب المدعي العام المالي القاضي الدكتور علي ابراهيم الذي يصادف أنه عضو فيها أيضًا.
وليكتمل المشهد، نرى أن هيئة التحقيق الخاصة نفت وجود أي شبهات وفقاً لتقرير المصارف وليس لتدقيق النيابة العامة التمييزية، في حين سطّر مدير الدائرة القانونية للهيئة، الأستاذ بيار كنعان، صياغات قانونية لحمايتها. وامتنعت النيابة العامة التمييزية عن الكشف على الأسماء وتنازلت عن صلاحياتها وأخذت برأي الهيئة. وبالتالي، انتهى الأمر بالمصارف التي تمكنت من بناء نظام مصرفي جديد دون مساءلة، وبقي أصحاب الحسابات التي أصبحت تُسمّى "حسابات قديمة" إمّا عالقين أمام قضاء شبه عاجز، أو تحت رحمة التعاميم التي لا يتعدّى سقف السحب فيها 300 دولار، تُدفع من ناتج تشغيل الأموال المهرّبة أو المحولة (ضمن نظام أقتصادي إستنسابي وليس حر!)، أو من خلال استغلال المصارف للمساعدات المالية الدولية الوافدة إلى لبنان.
رحلَ الدكتور مروان إسكندر، الذي نسألُ اللهَ له الرحمةَ والمغفرةَ، لكنّ الحقيقةَ التي كشفها لا تزال تتلاشى وسطَ الصفقاتِ والتسوياتِ السياسية. وبينما يستمرُّ اللبنانيون في مواجهة أزماتهم المالية، يبقى السؤال: إذا كانت قضية بهذا الحجم – القضية رقم 6737 – قد انتهت بلا محاسبة، فهل هناك أملٌ بَعْد في تحقيقِ الانتظامِ الماليِّ في لبنان؟