2025- 02 - 05   |   بحث في الموقع  
logo العين على بعبدا logo طوقٌ أمنيّ… هذا ما حدث في مستشفى اليوم logo الرئيس عون يلتقي سلام في بعبدا logo بأقل من 24 ساعة… شعبة المعلومات أوقفت الشخص الذي أضرم النار بالقاصر في مجدليا logo رئيس المجلس الأوروبي هنأ عون بانتخابه رئيساً logo الرئيس عون: للالتزام بتطبيق الـ 1701 logo المطارنة الموارنة: لتأليف الحكومة بأسرع وقت والإتيان بفريقِ عمل إصلاحي متخصّص logo زيارة مرتقبة لسلام إلى بعبدا: إعلان الحكومة يقترب؟
أم كلثوم وفريد الأطرش...مشاريع كثيرة أحبطها العناد والوسوسة
2025-02-05 15:55:56

في العام 1923 وبينما كانت أسرة فريد الأطرش تهم بالخروج من محطة قطارات القاهرة "باب الحديد" واصلة لتوها من بيروت هاربة من مصير غامض كان ينتظرها، وقعت عينا الصبي فريد على إعلان على حائط مقهى وهم يعبرون الميدان، لفتاة بدوية السمات ترتدي ثياباً عربية، فسأل والدته عن الفتاة وهل هي بدوية من عندنا؟ فأجابته وهي ممسكة بيدي شقيقيه أسمهان وفؤاد: "هذه أم كلثوم إنها مطربة ظهرت منذ ثلاثة أعوام ويقولون أنها بدأت تهدد عرش منيرة المهدية وإنها ستصبح بلبل مصر الصداح".أصبحت أم كلثوم فعلاً بلبل مصر الصداح وتربعت على عرش الغناء في العالم العربي منذ مطلع ثلاثينيات القرن العشرين. في ذلك الوقت كان فريد وشقيقته أسمهان يتلمسان خطواتهما الأولى نحو الشهرة في عالم الغناء، وعندما بلغا شأناً مهماً في نهاية الثلاثينات بعد طلاق أسمهان من زوجها حسن الأطرش وعودتها إلى القاهرة، كانت تجمعهما سهرات منزلية مع أم كلثوم، حسبما روى فريد في مذكراته "لحن الخلود" لفوميل لبيب. كانت أسمهان تلح على أم كلثوم كي تغني لتسمع صوتها الطبيعي الصادر من حنجرتها وليس من الأسطوانة، وعندما تبدأ أم كلثوم، كانت اسمهان تجلس على الأرض قريبة منها لتتمكن من سماعها بشكل افضل.في تلك المرحلة من مسيرتها الفنية اعتمدت أم كلثوم كلياً على ثلاثة ملحنين فقط هم: محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي. في بدايتها في حقبة العشرينيات أخذت ألحاناً من أحمد صبري النجريدي ومحمد القصبجي، بالاضافة إلى ألحان للشيخ أبو العلا محمد لم يضعها لصوتها خصيصاً. وطوال حقبة الأربعينات اقتصر تعاون أم كلثوم على فرسانها الثلاثة، القصبجي وزكريا أحمد والسنباطي، ولم تخرج عن هذه القاعدة سوى مرة واحدة عندما أخذت لحناً من اللبناني فريد غصن حمل عنوان "وقفت أودع حبيبي" من شعر أحمد رامي، وقد مُني اللحن بفشل ذريع، حتى أن أم كلثوم لم تسجله على إسطوانات واختفت بعدها تسجيلاته الإذاعية وأصبح اليوم من المفقودات. في نهاية الأربعينيات اختلفت أم كلثوم مادياً مع زكريا أحمد، وفنياً مع القصبجي، وتوقفت عن تقديم أعمال جديدة لهما طوال حقبة الخمسينيات، فكان بطل تلك الحقبة وفارسها الوحيد هو رياض السنباطي، مع إستثناءات عندما أخذت ألحان لأغنيات قصيرة وطنية من محمد الموجي وكمال الطويل العام 1956، ثم دينية في الأوبريت الإذاعي "رابعة العدوية" في محاولة منها للإنفتاح على الجيل الجديد من الموسيقيين الذين لمعوا منتصف الخمسينات. لكن نتاجها من الأغنيات العاطفية والدينية المسرحية المطولة جميعها، كان كله من ألحان السنباطي في تلك الفترة.

مأمون الشناوي وأغانيه الثلاث
في العام 1944 شرعت اسمهان في تصوير فيلم "غرام وإنتقام" لحساب استديو مصر، وسألوها من تختار من الشعراء لكتابة أغاني الفيلم، قالت لهم: أحمد رامي وبيرم التونسي والشاعر الذي كتب لمحمد عبد الوهاب أغنية "إنت وعزولي وزماني". سألوا عبد الوهاب عن الشاعر وعرفوا مقره في مجلة "آخر ساعة"، واستُدع لمقابلة مدير الإستديو الذي وقع معه العقد وأخذ منه كلمات أغنيتي "إمتى هتعرف" التي لحنها القصبجي و"أهوى" التي لحنها فريد الأطرش، وقتها لم يحدث لقاء بين الشناوي وفريد الأطرش، وبعد عامين التقيا مصادفة في ورشة لإصلاح السيارات عندما عرفه إليه صديق مشترك فإحتضنه فريد وقبّله، مبدياً إعجابه الشديد بأشعاره، وطلب منه أن يكتب له أغنية جديدة ليغنيها، وكان مأمون قد كتب فعلاً أغنية تحمل عنوان "حبيب العمر" كانت طلبتها منه أم كلثوم، وعندما انتهى منها ذهب إليها بالأغنية، في منزلها وبعدما قرأتها طلبت منه إجراء تعديلات عليها، والعودة إليها مجدداً، وهو كان يرفض تماماً فكرة أن يقوم مطرب أو مطربة بتعديل كلمات أغانيه حتى لو كانت هذه المطربة هي أم كلثوم!
يروي الشاعر مأمون الشناوي قصة أغنياته الثلاث التي كتبها خصيصاً لأم كلثوم لكنها خرجت إلى النور جميعها بصوت وألحان فريد الأطرش. فكتب في مقال له نشرته مجلة "الموعد" في 30 ديسمبر 1981 تحت عنوان "سر يذاع لأول مرة: أم كلثوم قبل فريد كانت ستغني حبيب العمر الربيع وأول همسه". ويقول: "طلب مني فريد أغنية لم يحدّد لها موقفاً أو موضوعاً ليسجلها في إذاعة "الشرق الأدني" وصودف أن كانت في جيبي أغنية حبيب العمر، وكنت قد عرضتها على أم كلثوم فإقترحت بعض التعديلات، ولم أقتنع بمبدأ التعديل وكنت لم أقرر بعد لمن أقدمها من المطربين، فأخرجت الأغنية من جيبي وقدمتها إليه، وحتى أجنبه وأجنب نفسي الحرج، قلت له إفتح هذه الورقة واقرأها حين تخلو إلى نفسك، وبعد أيام إتصل بي فريد يدعوني إلى العشاء في بيته في الزمالك، وذهبت وجلست في الصالون وجاء فريد بالجلابية ولم نكد نتبادل التحية حتى أمسك بالعود وراح يصلح أوتاره وأسمعني "حبيب العمر"، ولم يكن في حاجة أن يعرف رأيي فقد انبهرت باللحن، وكنت أردد عبارات الإعجاب بصدق كلما انتهى من مقطع، وقال لي فريد أنه سيضعها في أول فيلم من إنتاجه وسألته عن اسم الفيلم فقال سأسميه "حبيب العمر"، وهكذا بدأ أول لقاء لي بفريد الأطرش بأغنية تحولت إلى أول فيلم من إنتاجه. ولما سألتني أم كلثوم عن التعديلات التي طلبتها في الأغنية، إعتذرت لها بأني أطمع أن تكون أول أغنياتي لها بلا إعتراضات منها، فقد كنت أيامها يملأني غرور الشباب ويدخل في روعي أن أي تعديل في بيت من أشعاري هو مساس بكرامتي الفنية".
بالفعل سجل فريد أغنية "حبيب العمر" أولاً العام 1946 لحساب اذاعة "الشرق الادني"، ثمّ ضمها إلى فيلم حمل الاسم نفسه وكان الانتاج الأول لفريد، وبطولة سامية جمال، من إخراج هنري بركات، وعرض في 1947. ويتابع الشناوي: "ونظمت بعد ذلك أغنية "الربيع" وذهبت إلى أم كلثوم في بيتها بناء على إتفاق معها وقرأت عليها الأغنية وكلي ثقة في أنها لن تطلب تغيير حرف واحد منه، لكني أصبت بخيبة أمل حين إقترحت بعض التعديلات مبدية إعجابها، محذرة من أن أعطيها لفريد كما حدث في الأغنية الأخرى، ولم أشأ أن أناقشها ووعدتها أن أحاول الإقتناع، وكان مسكن فريد الأطرش على بعد خطوات من بيت أم كلثوم في الزمالك، ووجدتني منساقاً إلى مسكن فريد وقد صممت على تقديمها له، فأبدى فريد إهتمامه لمعرفة سبب زيارته دون موعد سابق فقصصت عليه ما جرى بيني وبين أم كلثوم وقرأت له الأغنية فخطف الورقة من يدي قائلاً: أنا الذي سوف أقنع أم كلثوم بأن تغنيها كما هي، ومضت أيام لا تزيد عن أسبوع وفاجأني فريد بالأغنية وقد لحنها وقال لي إنه اتفق مع أم كلثوم على موعد يسمعها فيه أغنية من تلحينه من دون أن يذكر لها أنها "الربيع". وقلت له لو أصرت أم كلثوم على تعديل كلمات الأغنية فسأرفض، فطمأنني فريد إلى أنه واثق من موافقتها على الأغنية كلاماً ولحناً كما هي، وبعدما سمعت أم كلثوم الأغنية أبدت إعتراضها على بعض الكلمات وطلبت تعديلها، ربما كان لها رأي في اللحن لم تشأ أن تبديه له تأدباً منها وتجنباً للحرج، خصوصاً أنها كانت متمسكة بفرسان الملحنين الثلاثة، زكريا أحمد ورياض السنباطي ومحمد القصبجي، وترفض أن تضيف لهم فارساً رابعاً. وكان أن غنى فريد الأطرش الربيع وكان ما كان من انتشارها ونجاحها". هكذا، كانت أغنية "الربيع" هي الأغنية الوحيدة من بين ثلاث أغنيات، يشاع على سبيل الخطأ أن فريد لحنها لتغنيها أم كلثوم، كما يتضح من حديث الشاعر مأمون الشناوي.يضيف الشناوي: "وبعد ثلاثة أعوام قرأت لأم كلثوم أغنية "أول همسة" وتكرّر ما حدث في أغنيتي "حبيب العمر" و"الربيع"، أذكر يومها أني صارحتها بالسبب الذي من أجله أرفض أي تعديل في كلمات أغنياتي وقلت لها: لو أنك دخلت معرضاً لرسام وأعجبتك لوحة وأردتش شراءها فهل تطلبين منه إجراء تعديلات في اللوحة كأن يجعل الوجه يبتسم أو الأنف أصغر أو الشعر أطول، قالت: كيف أطلب منه التعديل في لوحة هو المسؤول الوحيد عنها، فقلت لها إن للأغنية الوضع نفسه، قالت أنا أخالفك الرأي، فلست أنت وحدك المسؤول عن الأغنية، بل يشترك معك في المسؤولية المغني والملحن. المغني أولاً لأنه هو الذي يواجه الجمهور وأي زجل وأي قصيدة لن يسميها أحدهم أغنية إلا إذا لحن هذا الزجل ملحن، وغناها مغن. واقتنعتُ بعض الشيء، لكني لم أستطع أن أقاوم غروري وخرجت من مسكنها إلى شقة فريد الأطرش لأعطيه أول همسة فيلحنها ويغنيها... وتلك هي قصة الأغنيات الثلاث التي تنقلت بين قمّتين من قمم الغناء العربي".ويبدو أن الذاكرة قد خانت شاعرنا مأمون الشناوي في ما يتعلق بتواريخ تقديم تلك الأعمال لأنه تحدث عن تلك الوقائع بعد مرور أكتر من ثلاثين عاماً على حدوثها. فبحسب الدكتور نبيل حنفي في كتابه "فريد الأطرش ومجد الفيلم الغنائي"، قُدمت أغنية "حبيب العمر" في إذاعة الشرق الأدني العام 1946، ثم "أول همسة" العام 1948 لصالح الإذاعة نفسها، فيما قدمت "الربيع" العام 1949 في فيلم "عفريتة هانم" للمخرج هنري بركات.إذن كانت مسألة إعتداد كل من فريد ومأمون، الأول بألحانه والثاني بأشعاره، ورفضهما إدخال تعديلات عليها، هو السبب الذي حال بينهما وبين صوت أم كلثوم. صحيح أن مأمون تعلّم الدرس ورضخ في النهاية لرغبة أم كلثوم في العام 1961 عندما غنّت له للمرة الأولى من ألحان بليغ حمدي "أنساك"، ثم "بعيد عنك" لبليغ و"دارت الأيام" لعبد الوهاب، لكن ماذا عن فريد؟كفاية يا عين
بعد مرور ستة أعوام، وبموازاة تصوير فيلم "إزاي أنساك" للمخرج أحمد بدرخان العام 1955 من بطولة فريد وصباح وكريمة، وقعت أحداث هده القصة التي رواها الشاعر عبد العزيز سلام في حديث إذاعي له، وهي تخص أغنية "كفاية يا عين" التي كانت ستغنيها أم كلثوم بلحن فريد الأطرش.يقول: "كنت مدعواً إلى الغداء عند فريد، وكانت معنا كريمة فاتنة المعادي، وفؤاد الأطرش شقيقه، والمخرج أحمد بدرخان، وعازف الكمان أحمد الحفناوي، وبعد الغداء قعدنا وكتبت كلمات أغنية "بتبكي يا عين" وأعجبوا بها جميعاً حتى أنهم كتبوا كلماتها ورائي، وبعدين روحت فوجئت الساعة 11 في الليل بإتصال من أم كلثوم قالتلي أنا عرفت إنك كاتب كلام لفريد حلو قوي أنا عاوزه أغني الكلام ده، في الحقيقة ما صدقتش نفسي من الفرحة، قولتلها بس ده فريد لحنها وهو ماكنشي لسه لحنها، قالت وأنا عندي إستعداد أغنيها بلحن فريد، وبعدين إتصلت بفريد وقولتله على إتصال الست، قالي تعالي أنا عاوزك، روحته البيت قاللي الكلام ده بجد؟ وأنا عنده اتصلت أم كلثوم وقالته يا فريد أنا عاجنبي الكلام ده جدا وعاوزه أغنيه باللحن بتاعك".يواصل سلام: "وتفرغت ثلاثة أيام مع فريد محبوسين في البيت حتى أنجزنا اللحن، وبعدين رحنا لأم كلثوم أنا وفريد ومعانا أحمد الحفناوي، وسمعناها اللحن انبسطت جداً منه، وقالتله بس يا فريد الكوبلية الوسطاني ده إنت ملحنه موال وأنا عاوزاك تعيد تلحينه بلحن عادي، وأنا يا فريد وأنا بغني هرجع أغنيه وكأني بتصرف، رجعنا فرحانين وفوجئنا بصديق مقرب من فريد سمع اللحن وقال جملة إعتراضية لفريد: إزاي يا فريد أم كلثوم الخالدة هتاخد الخلود ده كله... ولم أستوعب دلالة الجملة، ظننتها نكتة، وبعد أسبوع قابلني عطية شرارة جنب بيتي اللي كان جنب الإذاعة في شارع الشريفين، فوجئت بيه بيقولي إحنا هنسجلك أغنية جديدة النهاردة لفريد، قولت أروح معاه الإذاعة، ما هو فريد واخد مني أغاني كتير، ولما روحت الإذاعة اكتشفت إن فريد بيسجل أغنية "كفاية يا عين" وفي إعتقادي أن أم كلثوم عندت معاه من يوميها ومارضيتش تاخد منه لحن".هذه شهادة شاعر آخر، ويبدو من مضمومنها أن فريد رفض الرضوح لرغبة أم كلثوم في تعديل لحنه، وأن هذا السبب حال للمرة الثانية بين لقاء ألحانه بصوت أم كلثوم.

وردة من دمنا
في العام 1960 أفسحت أم كلثوم المجال للملحنين الشباب، وغنت للمرة الأولى للموسيقار بليغ حمدي "حب إيه" للشاعر عبد الوهاب محمد، وكانت المرة الأولى التي تغني فيها لحناً عاطفياً مطولاً لغير رياض السنباطي منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً. وفي عام 1964 غنت من ألحان محمد الموجي "للصبر حدود"، وفي العام نفسه حدث ما سمي بلقاء السحاب، بين صوت أم كلثوم وألحان محمد عبد الوهاب في أغنية "إنت عمري" للشاعر أحمد شفيق كامل، وتوالت أعمالها مع عبد الوهاب وبليغ حمدي والموجي. وهنا شعر فريد بالغيرة الفنية وخرج عن صمته وطالب في أحاديثه الصحافية، أم كلثوم، أن تفسح المجال لألحانه بحنجرتها كما فعلت مع عبد الوهاب الذي كان يعتبره بمثابة غريم موسيقي له. في مطلع العام 1967، قبل النكسة، وقبل أن ينقل فريد إقامته من القاهرة إلى بيروت، جرت إتصالات بين فريد وأم كلثوم التي وافقت على أن تغني لحناً له، وتركت له إختيار الكلمات المناسبة، وطلب فريد من الشاعر اللبناني بشارة الخوري "الأخطل الصغير" قصيدة يلحنها لأم كلثوم فأهداه قصيدة تحمل عنوان "وردة من دمنا" عن القضية الفلسطينية.في حوار له مع الصحافي سيد فرغلي أجراه معه في بيروت لمجلة "الكواكب" بعنوان "أنا في إنتظار إشارة أم كلثوم لأعود إلى القاهرة"، في العدد الصادر في التاسع عشر من ديسمبر 1967، قال فريد إنه التقى أم كلثوم في منزلها ومعه شقيقه فؤاد، وأنه أسمعها قصيدة "وردة من دمنا"، وأعجبت أم كلثوم باللحن والكلمات، وإفترقا على أن يتم المشروع بعد عودة فريد من لبنان، فقد سافر فريد قبل نشوب الحرب إلى بيروت ووقوع العدوان الصهيوني، وسافر بعدها إلى لندن لإجراء عملية جراحية، ثم فجع بوفاة والدته وقد أثر هذا فيه بالطبع، وقبل أن يتعافي من ذلك كله، تفاعل مع الأحداث الوطنية تلك ولحن وغني "نشيد الفداء" للشاعر عبد الجليل وهبي وصوره للتلفزيون.لكن أم كلثوم لم تسجل لحن فريد وسجلت خلال المعركة قصيدة "إنا فدائيون" ألحان بليغ حمدي وكلمات عبد الفتاح مصطفى، وسجلت في أعقابها أغنيتي "حبيب الشعب" لأحمد شفيق كامل و"حق بلادك" لعبد الوهاب محمد، وكلاهما من ألحان رياض السنباطي.بعد أشهر وفي لقاء تلفزيوني أجرته ليلى رستم مع فريد، ضمن برنامج "نجوم على الأرض" العام 1968 في "تلفزيون لبنان"، سألته عن تعاونه مع أم كلثوم، فأجابها: "إجتمعت مع السيدة ام كلثوم قبل النكسة وعرضت عليها قصيدة عن فلسطين للأخطل الصغير كنت طلبتها منه وأهداني إياها، وأعجبتني جداً وإقتنعت بها ورحت لأم كلثوم وسمعتها القصيدة وأعجبتها جداً لحناً وكلاماً، ووافقت أن تغنيها لكن بعد فترة وجدتها تتراجع عن الفكرة ولا أعلم من يتدخل، وقد يكون ظني غير صحيح".كان فريد يظن بأن السنباطي أو عبد الوهاب صاحبَي دور في الأمر، وهو ظن في غير محله فلا أحد يستطيع أن يحول دون أم كلثوم وما تريده، على سبيل المثال لم يكن السنباطي راضياً عن تعاون أم كلثوم مع بليغ ومع ذلك غنت له عشرة ألحان.بعد هذا اللقاء التلفزيوني وفي صيف ذلك العام، التقى فريد بأم كلثوم مجدداً في بيروت في الحفلة التي أقامتها لها السفارة المصرية، تكريماً لها بمناسبة زيارتها للبنان لإحياء حفلتين في مهرجان بعلبك لصالح المجهود الحربي، وتحدثت معه أم كلثوم عن أنها تفضل أن يكون لقاءها الأول مع ألحانه من خلال أغنية عاطفية مطولة كما حدث مع عبد الوهاب، وليس من خلال أغنية وطنية تخص مناسبة بعينها وتذاع لمرات قليلة ثم تحفظ في مكتبة الإذاعة، ووعدته خيراً.ولما يئس فريد من غناء أم كلثوم للأغنية، سجلها بصوته العام 1973 بمناسبة إنتصارات حرب أكتوبر وأهداها للاذاعة المصرية، وهي العمل الأقل جمالاً من حيث اللحن من بين أغانيه الوطنية. ومن جهة أخرى، كانت القصيدة قد لُحنت وغُنت من قبل، تحديداً بعد أيام على نكبة فلسطين العام 1948، كما تخبرنا مجلة "الراديو المصري" في العدد 693 الصادر في 26 يونيو 1948، إذ نشرت المجلة نص قصيدة "وردة من دمنا" وكتب فوق النص غناء وألحان المطربة اللبنانية لور دكاش، وهي صاحبة الأغنية المشهورة "أمنت بالله"، وجاءت ضمن مجموعة من الأغنيات التي سجلتها الإذاعة وقتها بعد وقوع نكبة فلسطين. وكان بشارة الخوري كتب القصيدة خصيصاً لعبد الوهاب، بطلب منه، ليغنيها عند وقوع نكبة فلسطين، غير أن الخوري تأخر في إرسالها لعبد الوهاب الذي كان في عجلة من أمره، فأخذ قصيدة "أخي جاوز الظالمون المدى" من الشاعر على محمود طه ولحنها وغناها في الإذاعة.بعد عودتها إلى القاهرة من بيروت، اتصلت أم كلثوم بالشاعر أحمد شفيق كامل، ولم يكن إختياره لكتابة الأغنية اعتباطاً، فهو الشاعر نفسه الذي كتب أغنية "انت عمري" بينها وبين عبد الوهاب، وطلبت منه أن يكتب أغنية جديدة عاطفية يلحنها لها فريد. وحسبما حكى الشاعر في لقاء تلفزيوني له مع طارق حبيب: "إتصلت بي الست وقالتلي هل عندك مانع تكتب حاجة لفريد أنا عارفه إنك وهابي، فريد قابلني في بيروت وعاتبني جداً وكان زعلان إني ماغنتلوش حاجة لحد دلوقتي ومتصور إني مش عاوزه أغنيله، يا ريت تكتب أغنية مناسبة علشان يلحنهالي، فأرسلتُ لها كلمات أغنية "كلمة عتاب" وقالتلي حلوة جداص إبعتها لفريد في بيروت بس إترجاه رجاء واحد إنه مايقولشي حاجة لوسائل الإعلام لا صحافة ولا تلفزيون ولا إذاعة، يتكتم الخبر لحد ما يعمل اللحن ونبقي نعلن الموضوع".يواصل كامل قائلاً: "بعدها بشهر ونص، لاقيته باعتلي جواب على السعودية من 15 صفحة، يشكو لي مرّ الشكوى من أم كلثوم، إنه هو عمل لحن وراح لها الفيلا بتاعها، وأسمعها اللحن وفضلت تسمع من دون أن تبدي إعجابها باللحن، وبعد ما سمعته اكتر من مرة، طلبت منه أن يجرب إعادة تلحين الكلمات من مقام آخر، فغضب وحمل عوده وخرج وإعتقد أنها واخده منه موقف، ولما رجعت في إجازة الى القاهرة إلتقيته وقولتله يا فريد هيه دي طبيعتها هتقولك غيّر، وإنت ممكن تغير وترجع تسمعها أو ترجع تسمعها اللحن نفسه وهي ممكن تغير رأيها وتوافق عليه، لكن ده مش موقف منك، دي طبيعه أم كلثوم في التعامل مع الكل".فريد يعاتب أم كلثوم
غضب فريد الأطرش ورفض أن يعدل في لحنه كالعادة، وأعتبر موقف أم كلثوم إساءة له، أو طريقة مهذبة منها لرفض التعاون معه. في حديث له مع التلفزيون السعودي، تحدث فريد عن تلك القضية قائلاً: "الست غنت من سبع سنين لملحنين جداد، إيه اللي نجح طوالها سوى الاطلال وهو لحن شرقي غير مشبع بإقتباسات، كان فيه اتفاق بيني وبينها وكلفتني أعملها لحن وكنا نخوض المعركة وعشنا فيها بوجدانا وشعورنا، لكن الست ام كلثوم أرادت أني اعملها وقتها أغنية عاطفية، وانا لم أكن في حالة نفسية أني أعمل أغنية عاطفية وقتها بسبب الظروف التي تمر بها بلادنا، وأعجبت بوردة من دمنا وطلبت مني ان نبدأ بإجراء البروفات، واللي حصل بعد ما اتفقنا بعدها بأيام تغير هذا الإتفاق وتغير هذا التقدير والاهتمام ولاقيت شوية شوية بتنسحب من هذا الموضوع ولا أعرف من أثر عليها، أنا اعرف ناس كتير كانوا هيسعدوا لو انا فشلت معاها، لكن لو نجحت معاها كان هيحصل مقارنات بين ألحاني وألحانهم لأم كلثوم، أنا مقتنع وأجزم إن افيه ناس تدخلت لكي تحول بيني وبين هذا اللقاء".وفي حوار إذاعي آخر له مع الإذاعة السورية العام 1973، عاد فريد يصعد لهجة حديثه تجاه أم كلثوم قائلاً: "أم كلثوم بكل اسف فيه حاجة في نفسها، هي مش عاوزه تتعاون معايا يعني انا حاولت وقلت هذه امنية حياتي وتواضعت حتى جرحت نفسي لما اقول إن أمنيتي إني ألحن لأم كلثوم، وانا مش مضطر لكن حبيت أوري للناس لأي درجة إني بنزل من كرامتي الفنية ونفسيتي بتتعذب إني أقول كده، المفروض هي تحققلي هذه الأمنية لأني أقدر أقدم لها حاجات أفضل بكتير مما قدم لها، واضح إن في شيء كامن في نفسها مش عارف هو إيه؟ يمكن كان فيه شيء ضد أسمهان فأنا ورثت هذا الكره، هيه ممكن تقول فريد قدملي لحن ماعجبنيش مش من حقها تقول كده، الجمهور هو اللي يقول ده ناجح أو فاشل مش هيه، وأنا بسمعها في الفترة الأخيرة بتغني حاجات مش في مستوى أم كلثوم، في إعتقادي كان أفضل لها أن تعتزل عندما قالت إنها تنوى الاعتزال بعد رحيل جمال عبد الناصر، ماذا قدمت أم كلثوم في العشر سنين الأخيرة سوى الأطلال وإنت عمري".
في الواقع عندما أدلى فريد بحديثه هذا كانت أم كلثوم في حالة شبه إعتزال، فبعد حفلتها الأخيرة، مطلع يناير 1973، لم تتمكن مجدداً من الوقوف على خشبة المسرح، وبعد تسجيلها آخر أغنيلتها "حكم علينا الهوى" لبليغ حمدي وعبد الوهاب محمد، في فبراير من العام نفسه، لم تتمكن أم كلثوم من الغناء مجدداً حتى رحيلها. كان فريد رحمه الله طيب القلب. فالموسيقار محمد عبد الوهاب ظل طوال حقبتي الأربعينيات والخمسينيات يدعو ام كلثوم ويناشدها عبر الصحافة أن تغني من الحانه ويعدها بأن يقدّم لها أعمالاً ممتازة، وكانت تتجاهل الأمر لأنها كانت ضد تيار التجديد الموسيقي الذي يقوده عبد الوهاب. لكنه لم يغضب منها ولم يأخذ الأمر على كرامته، ولولا تدخل عبد الناصر لكان تأخر لقاؤها مع عبد الوهاب. أما على صعيد طلب أم كلثوم التعديل في اللحن، فكان الأمر دارجاً لكل من تعاون معها من الملحنين الكبار والصغار، فلا بد لها كمطربة من أن ترتاح للحن والمقام الذي تغنيه، وكذلك للكلمة التي تغنيها، وكان الجميع يتجاوب مع طلباتها تلك بصدر رحب. لقد أعاد السنباطي تلحين مذهب قصيدة "أقبل الليل" العام 1969 بناء على طلب من أم كلثوم التي لم ترتح للمقام الموسيقي الذي وضعه السنباطي لشعر أحمد رامي، وطلبت منه أن يعيد تلحينها مجدداً من مقام آخر طلبته منه. ولم يعترض السنباطي أو يحتج، وأعاد تلحين القصيدة التي خرجت إلينا في صورتها البهية، بل إنه قال في حديث إذاعي أنها كانت محقة في طلبها.
محمد عبد الوهاب تحدث عن هذه المأساة الفنية في حوار له حيث قال: "المشاريع بين فريد وأم كلثوم، كانت كثيرة والأحلام أكثر، لكن لا شيء تحقق، ففريد كان موهوباً وواثقاً من نفسه واللحن لا يستغرق أكثر من دقائق معدودة في يديه، ولا يدخل على لحنه أي تعديل لا مناقشة ولا تراجع، لكن أم كلثوم هي المناقشة بعينها، هي الدقة والوسوسة، يا فريد طباعك غير طباع أم كلثوم، لا بد أن يتنازل واحد منكما عن طبعه، فريد يرفع شعار لا تغيير، وأم كلثوم تغيير وتغيير".وأكد بليغ حمدي على كلام عبد الوهاب حين كتب مقالاً في رثاء فريد بعد رحيله تحت عنوان "دفاعاً عن الضياع الحضاري" نشر في كتاب "فريد الاطرش بين الفن والحياة" جاء فيه: "إن فريد كان معتزاً للغاية بنفسه وعنيداً إلى آخر مدى حتى في ما يخدم فنه هو، إن هذا هو السبب في أن المرحومة أم كلثوم لم تغن من ألحانه، فريد لم يعرف كيف يتعامل مع سيدة في الغناء العربي كأم لثوم، لقد كانت له طريقته هو في التعامل، وهكذا خسرنا لقاء فنياً كان سيصبح مثمرا جداً وناجحاً للغاية".
في العام 1976، طلبت وردة الجزائرية أغنية "كلمة عتاب" من فؤاد الاطرش الذي بحث عن شريطها، وكانت وردة قد إلتقت في بيروت بفريد الأطرش العام 1973، عندما غنت في بيسين عاليه وقتها، ووعدها فريد أن يقدم لها لحناً جديداً، بعد لحنه الأول الذي قدمه لها العام 1961 في فيلم "ألمظ وعبده الحامولي" وهو "روحي وروحك حبايب" من كلمات صالح جودت.وأهدى فؤاد الأطرش وردة شريط أغنية "كلمة عتاب"، وكان فريد قد لحن منها فقط المذهب وكوبليه واحداً فقط، وقام بليغ حمدي بإكمال اللحن حيث لحن كوبليهَين جديدان، وقام بتلحين المقدمة الموسيقية والمقاطع الموسيقية الفاصلة ما بين الكوبلويهات، وحملت الأغنية بشكل إستثنائي، إسمي فريد الاطرش وبليغ حمدي معاً كلمحنين للأغنية، وهكذا كُتب في غلاف الأسطوانات وأشرطة الكاسيت، وفي جمعية المؤلفين والملحنين.غنتها وردة في حفلة عامة في ربيع 1976، وذلك بعدما رحل فريد في 26 ديسمبر 1974 ولحقت به أم كلثوم في 3 فبراير 1975، وقبل حلول ذكرى الأربعين الخاصة به بأيام قليلة.وفي النهاية لا نملك سوى القول: "وضاع الفن ضاع ما بين عند فريد الأطرش وإصرار أم كلثوم"، كما قالت في أغنيتها الشهيرة "ظلمنا الفن"... عفواً "ظلمنا الحب".


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top