يتناول فيلم "بورتريه عن مشرق ما"(*) المقتبس من رواية بالعنوان ذاته للكاتب البرازيلي لبناني الأصل ميلتون حاطوم، ملحمة مهاجرَين لبنانيَين إلى البرازيل والتحديات التي يواجهانها في غابات الأمازون المطيرة، عبر تتبّع قصّة حبّ مضطربة في أربعينيات القرن العشرين بين امرأة كاثوليكية ورجل مسلم.تبدأ القصة في لبنان العام 1949، حيث يقرّر الشقيقان الكاثوليكيان إميلي (وفاء سيلين حلاوي) وأمير (زكريا قعقور) مغادرة وطنهما، المهدّد بالحرب، بحثاً عن حياة أفضل. أثناء العبور، تلتقي إميلي وتقع في حبّ عمر (شربل كامل)، التاجر المسلم. إلا أن شقيقها، مدفوعاً بالغيرة، يستغلّ اختلافاتهما الدينية للتفريق بينهما، الأمر الذي ينتهي بمشاجرة مع عمر. يتعرّض أمير لإصابة خطيرة أثناء الصراع، وتضطر إميلي إلى مقاطعة الرحلة، بحثاً عن المساعدة في قرية أصلية لإنقاذ شقيقها. بعد تعافي أمير، يواصلان رحلتهما إلى مانوس، حيث تتخذ إميلي قراراً له عواقب مأسوية ودائمة. يتناول الفيلم موضوعات مثل الهوية والذاكرة والتعصّب والنزوح الثقافي، ويكشف العلاقات الأسرية والثقافية المعقدة للمهاجرين اللبنانيين في أرضٍ مجهولة البرازيل مليئة بالتحديات.يقول المخرج مارسيلو غوميز، إنه قرّر أفلمة رواية حاطوم على وجه التحديد، لأنه اعتبرها "غير قابلة للتصوير". وكانت نتيجة هذا التحدي، الفيلم الروائي الذي يفتتح النسخة السابعة من مهرجان السينما البرازيلية في بيروت. الخطوة الأولى تمثّلت في تطوير سيناريو (بالشراكة مع ماريا كامارغو وغوستافو كامبوس) من شأنه تقليل تعقيد السرد الأصلي مع الحفاظ على جوهره. نصّ يتألف من أصوات ووجهات نظر متعددة، يغطّي ما يقرب من قرن من الأحداث، اختُزل في رواية خطّية من منظور شخص ثالث، بواسطة راوٍ موجود في كلّ مكان، أي الكاميرا التي تغطي بضعة أشهر أو سنوات فقط.نُفذّت عملية تبسيط وتنقية مماثلة على المستوى البصري، فجرى التصوير بالأسود والأبيض للسيطرة على حيوية ما تعرضه الصور، خصوصاً غابة الأمازون، بالإضافة إلى إخفاء علامات التباين الزمني. يفسّر هذا العامل الأخير أيضاً، المشاهد القليلة الدائرة أحداثها في مانوس (على عكس الرواية)، والتي تتطلّب جهداً هائلاً لإعادة بناء أجواء الفترة الزمنية.قلب القصة هو ما تبقّى في الفيلم: ملحمة مهاجرَين من بلد مضطرب سياسياً واجتماعياً، إلى أرض استوائية غامضة، تنظمها قصّة حبّ بين عاشقين مختلفي الدين يحاول إجهاضها شقيق متعصّب لمسيحيته وتدفعه كراهية المسلمين (لأن والديه قُتلا على أيدي لصوص مسلمين). ستركز القصّة بعد ذلك على هذا المثلث الدرامي وتكيّفه مع جغرافيا جديدة وثقافة مليئة بالتحديات.
جودة الفيلم تكمن في ملاحظته للتناقضات الثقافية، وأكثر من ذلك في احتفائه بالاختلاط والتبادل بين تجارب إنسانية تبدو متباعدة في البداية. وهذا في الواقع موضوع عزيز على مارسيلو غوميز، كما رأينا في فيلمي "سينما، أسبرين، نسور" (2005) و"خواكيم" (2017) وغيرهما. ويُعلَن التقاء الثقافات منذ اللقطات الافتتاحية للفيلم: صور وأصوات غابات الأمازون المطيرة تحيل إلى نغمات موسيقى عربية. لاحقاً، في ميناء بيروت وأثناء عبور المحيط الأطلسي، نسمع بلغات عديدة أصواتاً لفلسطينيين وفرنسيين وبولنديين وإيطاليين وألمان، كلّ منهم يبحث عن مكان جديد للعيش والاستقرار.تبدو البرازيل هنا بلد المستقبل، بجمعها بين فرص العالم الجديد ومثالية الشرق القديم. من أجمل المشاهد في الفيلم، ذلك الذي تظهر فيه فتاة من السكان الأصليين تدعى أنستاسيا (روزا بيكسوتو) وهي تعلّم إيميلي كيفية إعداد أرجوحتها في "القفص" الذي سينقل الوافدين الجدد من بيليم إلى مانوس. تحتوي ابتسامة أنستاسيا، البرازيل بأكملها، أو على الأقل أفضل جوانبها وأكثرها نقاءً وحباً وحيوية. يوتوبيا كاملة لبلد يُعبّر عنها في لمحتَين لا أكثر.مع ذلك، يجب الاعتراف بأن الاهتمام الجمالي الشديد قد يؤدّي في النهاية إلى إضعاف القوة الدرامية للفيلم. دقّة التأطير، والتحكّم المطلق في الضوء في التصوير الفوتوغرافي الرائع (بواسطة بيير دي كيرشوف)، والعمل الصوتي الدقيق، كل هذا يصرف انتباه المشاهد، ويحفّز المزيد من التأمّل أكثر من العاطفة. وهنا تظهر مفارقة: إذ تُروى مأساة مضطربة، تحرّكها مشاعر عنيفة، في بيئة عالمية بامتياز، لكن ببرودة، وبنوع من التعقيم. وكأن مارسيلو غوميز يخجل من الانغماس في الدراما الإنسانية لشخصياته؛ على عكس ما فعله سيرجيو ماشادو في فيلم "نهر الرغبات" (2022)، المستوحى أيضاً من أدب ميلتون حاطوم.هذا اختيار جمالي (وأخلاقي) يستحق الاحترام والإعجاب. ناهيك عن أن استقبال العمل الفنّي دائماً ذاتي، فما لا يحرّك متفرّجاً قد يؤثّر في آخرين، وربما حتى الغالبية. في النهاية، هذا فيلم بسيط في حجّته ومسعاه، يتدفّق بطبيعية، مثل الأمازون، مع طاقم تمثيل قوي وإخراج حسّاس.(*) يفتتح الفيلم مهرجان السينما البرازيلية 2025، في بيروت، مساء الأربعاء 5 شباط الجاري.