أن تستمع وبعد سنواتٍ مديدة من الحديث الموارب، عن الثورة السّوريّة والذاكرة الدمويّة والعدالة الانتقاليّة والإسلام السّياسيّ والمسارات الّتي سلكتها ثورات الربيع العربيّ بسوداويتها وبحماستها وبخيباتها، بلسان حال السّوريّين أنفسهم، ومن قلب العاصمة بيروت، لهو أمرٌ بالغ السّورياليّة. ولعلّ هذا أوّل ما قد يتوارد لذهن أي شخصٍ حضر الندوة الحواريّة مع الكاتب والباحث والناقد والسّجين السّياسيّ السّابق ياسين الحاج صالح ومعه الباحثة في علم الاجتماع السّياسيّ زينة العظمة، في الجامعة الأميركيّة في بيروت. هذه الندوة الّتي جاءت في أوّج اللحظة السّوريّة الاحتفائيّة والمُكثّفة والمُحيّرة في آنٍ معًا، طارحةً أسئلةً جوهريّة وتأملاتٍ مشروعة حول سوريا ما بعد الأسد، حول المجتمع والانتظام العامّ والإيديولوجيا والأدب وصولًا للمسارات الطويلة والمُعقّدة والأشقّ الّتي تنتظر السّوريين بعد التحرير الكبير والمباغت.ندوةٌ حواريّةاستضافت الجامعة الأميركيّة في بيروت، مساء أمس الإثنين، ندوةً حضوريّة وافتراضيّة بعنوان "سوريا ما بعد الأسد: حوار مع ياسين الحاج صالح وزينة العظمة"، وذلك ضمن سلسلة "بعد السقوط: تأملات حول المجتمع في سوريا ما بعد الأسد"، الّتي ينظّمها مركز الدراسات العربيّة ودراسات الشرق الأوسط، بالشراكة مع برنامج مقاربات نقديّة للتنمية في الجامعة. وأُقيمت الفعالية في قاعة المؤتمرات، مبنى الأصفري، وشهدت حضورًا لافتًا من الأكاديميين والمهتمين بالشأن السّوريّ والنشطاء والمثقفين، بالإضافة إلى مشاركين عبر الوسائط الافتراضيّة. وتناولت الندوة محاور متعدّدة حول مستقبل سوريا بعد النظام المخلوع، والتحديات الّتي تواجه المجتمع السّوريّ في مرحلة ما بعد الأسد.
اُستهلت الندوة، بمداخلة الباحثة السّوريّة زينة العظمة، الّتي قدّمت شرحًا مفصلًا تناولت فيه "ثورة المعنى بعد سقوط النظام"، وركّزت على "المعنى للثورة بأبعاده الخمسة ما بعد سقوط النظام"، والّتي تتجلى بدايةً في إعادة إحياء السّرديات الثوريّة وتشكيل أرضيةٍ سرديّة مشتركة بين التيارات المدنيّة والفصائل. ومعنى موت الضحايا وعذاباتهم وأهميتها، الذي لا يكتمل إلّا بالعدالة الانتقاليّة وإحياء الذاكرة الجماعيّة. المعنى في اللّغة والّتي ستتطلب بوصفها جهودًا دستوريّة وثقافيّة جادّة لاستعادة لغةٍ شُوّهت على مدى عقود من الديكتاتوريّة. المعنى الوجوديّ الذي يعتمد على حرية الاختيار، خصوصًا للنساء، وعلى إقامة نظامٍ يحمي الحرّيات، وأخيرًا المعنى السّياسيّ لسوريا (الدولة والسّيادة) والّتي ترتبط باستعادة كامل السّيادة ومناورة الضغوطات الخارجيّة واستعادة احتكار الدولة للسّلاح.
تلا ذلك حوار أدارته عضوة مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعيّة ريما ماجد، مع الحاج صالح والذي تدرّج ضمن أربعةٍ محاورٍ أساسيّة، أهمها الذي أتى على ذكر البيان الصادر عن مجموعة من الفاعلين والفاعلات في الشأن السّوريّ العامّ وعلى رأسهم الحاج صالح، والذي تناول "المبادئ الأساسيّة الّتي من شأنّها أن تحصِّن سورية الجديدة" (نصّ البيان).ما بعد الأسدوالحال، أنّ لياسين الحاج صالح، في خاطر مدينة بيروت، شيءٌ شديد الحميميّة، وذلك قد يتبدى في القاعة الّتي غصت بعشرات الحاضرين، المُحتفين بالكاتب وبرمزيّة الحضور وبرمزيّة النقاش. مُحتلين جميع الكراسي، مفترشين الأرض، واقفين في زوايا مواربة، ومُحملقين بمطلق الانتباه للكاتب السّوريّ، الذي جلس يُحدّثهم عن هواجسه باستمرار اللحظة الاحتفاليّة الّتي قد تنتهي على كوابيس وعن آماله وعن شكّوكه فضلًا عن تفاؤله بسوريا ما بعد التحرير.
وتطرق الحاج صالح في بداية حديثه عن تأثر أعماله الأدبيّة بأدبيات الإبادة (genocide)، معتبرًا أن التجربة السّوريّة كانت مختبرًا للإبادة من دون أي منافس، فضلًا عن تجربة المنفى وإمكانيّة العودة المباغتة إلى سوريا بعد 13 عامًا على الغياب، هو الذي أساسًا قد استقر فيها لشهرٍ كامل بعد سقوط النظام. وتحدّث عن تجربة العيش في ظلّ النظام، وعن الثورة الّتي بدت "مستحيلةً" حتّى الثامن من كانون الأوّل، وتحديدًا في "تدويل الصراع" الذي كان حتّى العام 2012 سوريًّا – سوريًّا، لتتناوب كل القوى العظمى دوليًّا وإقليميًّا للمشاركة فيه. ومعتبرًا أن لحظة السّقوط، لن تستمر طويلًا، وأن مسؤولية السّوريين تكمن في تحويل هذه الحرية إلى نظام سياسيّ جديد قادر على الصمود والاستمرار. وحين سُئل عن دوره في المرحلة السّوريّة الراهنة، أجاب الحاج صالح بأنه يؤدي دوره الفكريّ قدر المستطاع، ويحاول التأقلم مع هذا الحدث الجلّل من خلال فهمه بالمرتبة الأولى.فيما يخص مستقبل الحكم في سوريا، أكد الحاج صالح أن الطريق إلى الديمقراطية يمرّ عبر حماية الحريات العامة، ترسيخ حكم القانون، تعزيز الشفافية، وضمان المساواة بين الجنسين. كما شدّد على أهمية تجريم التعذيب دستوريًّا، وضرورة منع أي شكل من أشكال الحكم الأبدي، وأعطى خلفيةً لتميز الثورة السّوريّة عن باقي ثورات الربيع العربيّ وخصوصًا أنها الثورة السّادسة والأكثر دمويّة والّتي غلب عليها طابع الاستحالة، مع مقارنة "مصر بعد السيسي" والخوف من إنقلاب هذه السّيناريو وحصوله في سوريا.
وعرّج الحاج صالح عن المخاوف المتعلقة بأسلمة الدولة السّوريّة، لكن الخوف الحقيقيّ يكمن في تحول الدين إلى أيديولوجيّة سياسيّة متطرفة. وقال إن السّوريين قد اختبروا أشكالًا متعددة من الجنون الأيديولوجيّ، سواء في عهد الأسد الذي كان هناك "قمع إبادي" أو خلال فترة تصاعد الجماعات الإسلاميّة المتطرفة. وأضاف أن إدانة التطرف يجب أن تكون شاملة، ولا تقتصر على فئة دون أخرى. ورأى في المستقبل أن سوريا لا تتجه لأن تكون بلدًا ديمقراطيًّا بالمطلق لكن ليس بدولةٍ إسلاميّة على طراز حكم طالبان في أفغانستان، معتبرًا إن إمكانيّة إحداث خرق في المجتمع السّوريّ للشريحة الديمقراطيّة العلمانيّة اليساريّة ممكن جدًا.
أما وبما يتعلق بالبيان الصادر عن قوى وطنيّة، حيث أكّد الموقعون على مجموعة من المبادئ الأساسيّة (7 مبادئ) لضمان تأسيس سورية الجديدة على أُسس العدل والحرية والكرامة. فأكدّ صالح أن حيّز البيانات هذه، مهم جدًا وقادر على التأثير، وهو شكلٌ من أشكال التغيير والتعبير بعد سنواتٍ من القمع، والعيش دون "خطّ الفقر السّياسيّ". وأضاف أن نقد الفكر السّياسيّ الإسلاميّ يجب أن يكون جزءًا من النقاش الديمقراطيّ، ولكن بطريقةٍ عقلانيّة لا تنجرّ إلى الاستقطابات الأيديولوجيّة الّتي تعزّز التطرف. وخلصت الندوة، على مجموعة من أسئلة الحضور، الّتي تفاوتت بين التعليق على نظريات الحاج صالح بما يتعلق بمواقفه السّياسيّة وتحديدًا بتوجسه وتفاؤله الحذر من المستقبل.