شكّلت أم كلثوم، التي تصادف اليوم الذكرى الخمسين لرحيلها، منعطفاً في تاريخ الفن الغنائي العربي المعاصر، عندما ساهمت في تعديل صورة المغنية التي تجاوزت وضعيتها كمطربة، واستحوذت على شهرة لم يحظ بها أحد من قبل، حتى لُقبت بالهرم الرابع، وكوكب الشرق. واشتهرت بلقب الست أي السيدة. وأرجع بعض الباحثين أصل اسم الست إلى اللغة الفرعونية: إيزيس سيدة العرش الإلهي، وذلك دلالة على الاحترام والتوقير.
وتحوّلت أم كلثوم مع الوقت، وفي ظل ظروف سياسية واجتماعية مؤاتية، إلى شخصية عامة ذات تأثير معنوي في مجتمع محافظ، ذي موروث ديني يحطّ من شأن المرأة، ولا يستسيغ مواهبها، أو يقدّر عملها وفنها. أمّا أن تحترف المرأة الغناء أو العزف، فكان في التاريخ العربي السلطاني، لا سيما في العصور الإسلامية الأولى، حكراً على عمل القيان أو الجواري. ومعظمهن من الأجنبيات اللواتي يُشترَين من أسواق النخاسة، واعتنقن الإسلام، وأجدن اللغة والشعر العربيين. والغناء عموماً في المتون الدينية رديف الغواية والفتنة، وإذا ما أُبيح في فترة ما، فلأنّه جزء من حِرفة الإماء المغنيات لإمتاع أسيادهن. لكنّ بعض الفقهاء المتزمتين لم يتقبّل ذلك، وحرّمه تحريماً مطلقاً، ووصف الغناء بأنه مزمار الشيطان. ويقول ابن القيّم الجوزية: "لا يجتمع حب القرآن وحب الغناء في قلب المؤمن". بيد أنّ التواشج أو الاقتراب من المنابع الصوفية، كما يتجلّى في الموشحات والأناشيد الدينية، مهّد السبيل إلى انتشار الغناء بمختلف أنماطه وأساليبه، وما صاحبه من معازف وترية ونفخية. ولا غرابة في هذه الحال، أن تكون بدايات أم كلثوم ممارسة أداء التواشيح والابتهالات الدينية في قريتها طماي الزهايرة، بمساعدة والدها الشيخ ابراهيم السيد البلتاجي وتشجيعه، قبل انتقالهما إلى العاصمة، حيث سيصقل مرشدوها قدراتها الاستثنائية لتتوافق والتطورات الموسيقية الحديثة، مع المحافظة على الروح العربية والمصرية الأصيلة. وعليه ستشهد القاهرة طفرة كلثومية كاسحة، ترتقي بمستوى الغناء النسوي الذي كان مهمشاً اجتماعياً، إلى مستوى من الاحترام، ما جعل من الغناء مهنة وقورة ومربحة، وأفضى ذلك الطريق لأم كلثوم بلوغ القمة، بعد تجاوزها منافستها الشهيرة منيرة المهدية، حيث امتدّت مساحة الاعجاب بغنائها حد اختراق الطبقات الاجتماعية والاقتصادية الميسورة. بل لم تتردد الدكتورة نعمت احمد فؤاد في كتابها "أم كلثوم وعصر الفن"، أن تماثل قصتها بقصة مصر، وصوتها بصوت الشعب. وقد ساهمت حفلات أم كلثوم في تشكيل الحياة الثقافية والاجتماعية المصرية، كما ساعد أسلوبها الغنائي الذي يجمع النمطَين الشعبي والكلاسيكي، على تعزيز إيديولوجيا الهوية المصرية. وحملت عروضها الغنائية أعمالاً لأعظم الشعراء والملحنين المصريين والعرب في عصرها. وتوسّعت قاعدة مستمعيها بفضل موهبتها وطاقتها الغنائية، واتقانها البارع للنظام اللحني العربي ومقاماته المتعددة، وفرادة صوتها contra - alto القوي وحِلياته، الذي زعم متخصصون أنّ قوته الصوتية المذهلة تقدّر بحوالي 14 ألف اهتزاز في الثانية. وقد تطلب منها ذلك أن تقف على بُعد ثلاثة أقدام من الميكروفون. وامتد جمهور "الست" من أبعد القرى في الأرياف، إلى قلب المدن العربية وشوارعها وأحيائها ومقاهيها حيث كان يصدح من الراديو، ثم عبر أشرطة الكاسيتات والإسطوانات والأقراص المدمجة. وكانت تفرغ الميادين والأسواق من الناس، كل مساء يوم الخميس من كل شهر، حينما تُذاع حفلاتها عبر الإذاعة المصرية التي تؤجل بسببها نشرة الأخبار.
وتميّزت هذه المطربة العملاقة عن سواها، بهذه العلاقة الدينامية بينها وبين جمهورها، من خلال الارتجال المتكرر الذي يجمع بين الأداء الماهر، والقدرة على إيصال المشاعر، والاستجابة التلقائية للعازفين. ما يسهم في خلق شحنة عاطفية يتبادلها الطرفان: هي، وجمهورها.
وتتساءل فرجينيا دانيلسون من جامعة هارفرد، في كتابها عن أم كلثوم "the voice of egypt" وهي المنطلقة من خارج الثقافة الموسيقية المصرية التقليدية، عن سر نجاح هذه المطربة المصرية في بناء شعبية هائلة، واحتلال مكانة شبه اسطورية، لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل، في مجتمع يثبط من عزيمة النساء عن الأداء العام. ورغم ذلك تغلغل صوتها الذي غنّى الحب والفراق والغيرة والوطن، في قلوب المصريين جميعاً، وأضحت أغانيها رمزاً صلباً للشعور المصري الوطني والعربي الذي احتلت فيه كاريزما عبد الناصر رافداً أساسياً.ومن الشارع إلى الصالونات الأكثر أناقة، تعرّف الجميع على أنفسهم فيها، ممثّلةً لمصر كلها. فخورة بأصولها ودورها. ولم يكن حدثاً مستهجناً ان تستقطب جنازتها نحو أربعة ملايين مصري. وبالمناسبة، عبر الممثل الشهير عمر الشريف عن فقدانها قائلاً: "تولد كل صباح من جديد في قلب 120 مليون إنسان في الشرق، ولن يكون لهذا اليوم بدونها أي لون". ورأى حازم صاغية في أعمال أم كلثوم تعبيراً نرجسياً في رواية الذات المصرية والعربية عن نفسها، فارتسمت صورتها في عيون جمهورها ومريديها مزيجاً من كمال إلهي وعظمة وطنية.
وتبدو الصبغة السياسية طاغية في حياة أم كلثوم وفنها إلى درجة جعلت نجيب محفوظ يقول إنّ عبد الناصر منح لغنائها معنى جديداً. ويزعم البعض أنّ شعبيتها ساعدت على تنفيذ الأجندة السياسية لناصر. ولا تُنكر بالفعل مساهماتها المالية في دعم المجهود الحربي عقب هزيمة العام 1967، وانتشار أغانيها الثورية الممجّدة لسياسات الناصرية رغم كبوتها.
بيد انّ أم كلثوم لم تعدم وجود مناوئين لها، يتحينون الفرص للإيقاع بها، ونشر الشائعات المغرضة حولها. فاتهموها بتخدير الشعب بمطولاتها الغنائية وآهاتها، وباستغلال علاقتها الوطيدة بالرئيس جمال عبد الناصر للتضييق على زميلاتها من المطربات والمطربين. ونسجوا حول منديلها الذي تحمله دائماً في يدها اليسرى أثناء غنائها، فِرْية تداولتها بعض الصحافة الأجنبية، زاعمة أنها كانت تخفي في طياته بودرة الأفيون لتتنشقه أثناء أداء وصلاتها الغنائية الطويلة. في حين نفى أقرباء من عائلتها ومعارفها هذه التهمة، وأرجعوا السبب لتحاشي ما ينتابها من توتر وقلق.