2025- 02 - 03   |   بحث في الموقع  
logo بيانٌ “عالي اللجهة” من تكتل “نيابي”.. ما جديد الحكومة؟ logo وزير الثقافة استقبل وفد صندوق التعاضد الموحد للفنانين اللبنانيين logo في حضور السيدة الأولى.. قداس في العيشية على نية رئيس الجمهورية logo توقيف مُطلق النار على سيارة الأب إيلي بشعلاني… وهذا ما اعترف به (صورة) logo إطلاق نار على محل لبيع الدجاج logo الملكة رانيا من الفاتيكان: لكل طفل الحق في الحماية والرعاية logo هزات شديدة في سانتوريني ودعوة الى الهدوء logo ماكرون: على الاتحاد الأوروبي فرض احترامه في حال تعرضه لهجوم تجاري
عارف الريّس...صاحب البيان الذي حفّز بياناً مقابِلاً لكمال جنبلاط
2025-02-03 14:25:53

المرّة الأخيرة التي رأينا فيها عارف الريّس الذي مرت قبل أيام ذكرى وفاته العشرين، كانت في مقهى "مودكا"، العام 2002، قبل عام من انتقال المقهى إلى عالم آخر: عالم التاريخ والذكريات. وبما أننا من أصحاب الذاكرة البصرية الحادّة، فما زالت أمامنا تلك الصورة، حين كان الفنان يتنقل بين الطاولات، متلفّحاً معطفاً طويلاً ذا لون أسود، ومتكئاً بخفة على عصاه، من دون أن تظهر عليه علامات العجز، بل كان يوزّع ابتساماته على الجميع، ويجري أحاديث سريعة مع بعضهم.

ربما كان هذا التنقّل من مجموعة من روّاد المقهى إلى أخرى، ولكل مجموعة من الحاضرين أسلوبها في النقاش السياسي أو الأدبي، أو النميمة، يشبه ترحال الفنان، المولود في عاليه، العام 1928، ترحال بدأه وهو في العشرين من عمره إلى أفريقياً. قصد لبنانيون كثر القارة الخام حينذاك، سعياً وراء ثراء لا يخلو من مغامرة. أما عارف الريس، فلم يهدف إلى تحقيق الحلم المتمثل بجمع المال، بل بدا وكأنه أراد أن يصبح لبنانياً – أفريقياً، يكتشف بلداً لم يرث بعد آفات الحضارة وأمراضها، وبعض سكانه لم يسبق لهم أن أبصروا رجلاً ذا بشرة بيضاء. "لقد طهرتني افريقيا من كل الخردة الحضارية، لا سيما التكنولوجيا والهوس بالتفوق"، قال حينذاك. ومن أفريقيا انتقل إلى باريس، مدينة الفنون الحائرة بين تيارات فنية، بعضها أقرب إلى بدايات الحداثة، وبعضها الآخر وقع بين العواصف الهوجاء لفن معاصر لا يستكين في البحث عن آفاق تتناسب مع حياة صاخبة. وفي العاصمة الفرنسية، إنضم إلى محترفات فرناند ليجيه، وأندريه لوت ومارسيل مارسو وأوسيب زادكين، وذلك أثناء دراسته في أكاديمية دي لا غراند شوميير.
لم يحاول الفنان، في رسومه العائدة إلى المرحلة الأفريقية، تقليد تلك المعطيات الفطرية لفن قارة كان راود كثر تناولوه، وعلى رأسهم بيكاسو "الكاذب" الذي قال: "الفن الزنجي، لا أعرفه"، بعدما اتهم بسرقة الأقنعة الأفريقية، في حين أن أعماله أثبتت عكس زعمه بجهله ذاك الفن. رسوم عارف الريس، العائدة إلى تلك المرحلة، تشهد على نمط تعبيري يأخذ ما أراده من مشاهد القارة وطبيعة سكانها. اقترب من الألوان الحارة (التي لا مفر منها في حالات مماثلة)، وحاول إيجاد صلة الوصل بين تلك الألوان والجسد الأفريقي، الذي ترسخت صورته في أذهاننا بعيدة من الجمود، وزاخرة بالحركة.
نزعة الفنان الإنسانية، ظهرت منذ بداياته. في العام 1945، وتحت عنوان "الرعب"، نفّذ رسماً بالفحم والباستيل يصوّر مأساة هيروشيما، الناتجة عن انفجار أول قنبلة ذريّة في التاريخ، التي كانت الولايات المتّحدة جرّبت مفعولها على البشر، بعدما لم تكفها التجارب التي أجرتها في صحراء نيفادا. في العام 1957، وبعد تسع سنوات من الإقامة في باريس، قرر العودة إلى بيروت للاستقرار فيها، لكن اندلاع أحداث 1958 جعلته ينسحب إلى المختارة، مستفيداً من محترف وضعه في تصرفه الزعيم كمال جنبلاط، الذي ربطته به علاقة صداقة وإعجاب بفكره الاشتراكي، وتناغم معه فكرياً ووجدانياً وفنياً، وهو الذي صمم منحوتات مقبرة بقعاتا تخليداً لأرواح شهداء ثورة 1958.وكان لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، العام 1975، أثر كبير ومؤلم في الفنان، ما دفعه إلى إصدار كتاب، في العام 1976، تحت عنوان "طريق السلم". وضم الكتاب 22 عملاً تشكيلياً، حاول الفنان من خلالها عكس صورة مختصرة عما خلّفته تلك الحرب بحيث تلخّص مجمل أحداث الرعب حينذاك. لم يضع الريّس حدوداً بين اتجاهات فنية شبه متناقضة، كالتعبيرية في تشويهها للشكل، واجتراحها اللون الصاخب، أو التكعيبية التي فضّلت الشكل، الهندسي أحياناً أو غالباً، كما لم يتوانَ عن الانتقال إلى التجريد. وفي أكثر من مرّة، بدا الفنان وكأنه يتعامل مع العمل الفني بأسلوب عفوي يميّز عادة الهواة، أكثر من المحترفين.
طرق الريس أبواباً كثيرة، وفي كلّ مرّة كان من الممكن رصد المفاعيل التي خلّفتها شخصيته ومزاجيته يف العمل الفني (هذه المزاجية تبدو وكأنها ضرورة تأسيسية بشخصيات فنانين كثر). الناظر إلى أعمال الفنان، سيقع على مروحة واسعة من الموضوعات السياسية والاجتماعية والثقافية والذاتية أيضاً. ومع تنامي حركة التحرّر الوطني في العالم الثالث، عالج الريس موضوعات مكتملة العناصر تحت عنوان "رؤى من العالم الثالث"، وقد تطرّق فيها إلى ثورات العالم الثالث والنضال الفلسطيني، والصراع الذي تخوضه الشعوب العربية ضد الصهاينة. وفي خضم الحوادث المتلاحقة ومتابعته لها، طرح الريّس أسئلة عما يجري في صفوف الحركة السياسية اللبنانية، وأصدر بياناً أطلق عليه تسمية: "مع مَن وضد مَن"، ممّا دفع الزعيم السياسي والمفكر كمال جنبلاط إلى إصدار بيان سياسي في مقابل بيان الفنان.
وإذ اعتبره بعض النّقاد "قطب الفن اللبناني الثاني"، إلى جانب بول غيراغوسيان (1926-1993)، فإن غيراغوسيان، ومن الناحية التشكيلية، كان مخلصاً للقامات المتكرّرة والثابتة في مكان واحد، في حين بقي الريّس "على قلق كأن الريح تحتي أوجّهها يميناً أو شمالاً". من هنا، فإن الوجوه التي رسمها الريّس كانت تحمل قلق صاحبها، ومزاجه الخاص المذكور، وتحمل، أيضاً، وهن العالم الذي يعيش فيه. لا يمكن الفصل بين فنه وما حدث في حياته، كأن الفن لديه يحدد موقفه من كل ما يدور حوله. لدى معاينة أعماله، نشعر وكأننا في رحلة تتبدل محطاتها، فالألوان تتغير، وتظهر شخصيات جديدة غير تلك التي عهدناها، على أن ثمة سؤال يحضر بقوة، وهو ماهية الفن في عالم لا يكترث بالإنسان. لذلك، سيكون من الصعب رؤية أعمال الريّس بمعزل عن سيرته الشخصية، أكان في الأعمال التعبيرية، أو حتى في الأعمال الأخرى ذات الطابع التجريدي.
إلى ذلك، عُرف الفنان بنشاطه اللافت في المجتمع الفني في لبنان، فقد كان يدرّس ويكتب، ويشارك في المؤتمرات والمعارض والمؤتمرات ذات العلاقة بالأوضاع السياسية والفنية في العالم العربي. وإذ كان كثير الترحال، كما أشرنا سابقاً، فقد عكست أعماله البيئات والأماكن التي عاش وعمل فيها، والمراحل الزمنية، بدءاً من السنوات الأولى التي أمضاها بين لبنان والسنغال، مروراً بأسفاره ودراسته بين أوروبا والولايات المتحدة، وصولاً إلى عودته إلى العالم العربي، وانتقاله بين بيروت والجزائر ومدينة جدة، حتى استقراره نهائياً في العاصمة اللبنانية. لقد التقط الفنان جوهر العالم، أو العوالم، من حوله في مجموعة من الأعمال النابعة من أعماقه الخفية، والتي يعكس جانب منها الصراعات السياسية في زمانه، كحرب الاستقلال الجزائرية، والحرب الأهلية اللبنانية. لذا، فقد مثل عارف الريّس نموذجاً للمبدع الباحث عن الحرية على الدوام، وحامل هموم وطنه وآلامه، وأوجاع الإنسانية في شكل عام.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top