بخلاف المتوقع، شكّل الارتفاع القياسي في سعر صرف الليرة السورية، بالأيام الخمسة الفائتة، إرباكاً كبيراً لمعظم السوريين. فسعر الصرف في السوق الموازية ارتفع منذ الأربعاء الفائت بصورة متسارعة ليصبح دون حاجز الـ10 آلاف مقابل الدولار، لأول مرة منذ نحو سنتين. وهو ما عزّز حالة الإرباك المعيشي المتشكّلة خلال الشهر الحالي، جراء الانخفاض المستمر في سعر صرف الدولار، بصورة منفصلة عن أسعار السلع والخدمات الأساسية.وفيما لقِيَ ارتفاع سعر صرف الليرة السورية ترحيباً كبيراً، في الأسابيع الأولى بعد سقوط نظام الأسد، جراء تزامنه مع انخفاض ملحوظ في أسعار السلع وصل إلى نسبة 50% في بعض الحالات، انفصل ارتفاع سعر صرف الليرة عن أسعار السلع في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، وعكّر مشاعر الفرح والتفاؤل التي كانت قد شاعت بصورة كبيرة بعيد سقوط النظام السابق. تزامنت الحالة الراهنة، مع شح كبير في السيولة من الليرة السورية، وركود أو توقف معظم قطاعات الإنتاج، مع انفتاح الأسواق على السلع التركية المستوردة، رخيصة الثمن، وعالية الجودة، مقارنة بنظيرتها السورية، وتحوّل عدد كبير من العمالة إلى عاطلين، ينشطون في سوق بسطات انفلت تماماً عن أية سيطرة، وأصبح مصدر إزعاج وفوضى في المدن الكبرى.وقد زادت قفزات سعر صرف الليرة في الأيام الخمسة الفائتة من تعقيد هذا المشهد. فالليرة ارتفعت بنحو 17.40% منذ يوم الأربعاء الفائت. مما خلق معضلة لدى شريحة كبرى من السوريين، من زاويتين: الأولى، تتعلّق بمدخراتهم من الدولار، التي راكموها على مدار السنوات الماضية، والتي باتوا يضطرون للتخلي عنها بأسعار بخسة، مقارنة بالأسعار التي اشتروها بها، ويخشون –مع شح السيولة من الليرة- أن يضطروا لخسارتها كاملة، ومن ثم يعاود الدولار الارتفاع، فتكون حصيلة إدخارهم للتحوّط من تقلبات الزمن، قد ذهبت سدى. ومن يملك منهم احتياطي دولار مريح بصورة أكبر، يواجه تحدّياً، هل يبيعه الآن، قبل أن ينخفض أكثر فيخسر فيه أكثر مما خسر؟ أم يصبر بانتظار ارتداد السوق بالاتجاه المعاكس؟ أما الزاوية الثانية من المعضلة، فتتمثّل بالشريحة الكبيرة من السوريين التي تعتاش على حوالات أقاربهم في الخارج، والتي انخفضت قيمتها الشرائية، جراء انخفاض الدولار، مع ثبات أسعار معظم السلع والخدمات. فمن كانت تكفيه حوالة بـ300 دولار شهرياً، بات يحتاج إلى 400 دولار. وهو ما أدى لانخفاض مستوى معيشة معظم من يعتاش على الحوالات الخارجية. وهي نسبة قد تصل إلى نحو ثلثَي السوريين.ومن عوامل تعقيد هذه المعضلة، ثبات سعر الصرف الرسمي الصادر عن المصرف المركزي عند 13000 ليرة للشراء، وذلك منذ 5 كانون الثاني/يناير الفائت، مما يعزز الاعتقاد بأن سعر الصرف الموازي، الذي بات بنحو 9500 ليرة، مؤقت، وأن دولار السوق سيرتد للارتفاع قريباً جداً. من جانبه، يساهم المركزي في تعقيد هذه المعضلة، عبر امتناعه –برفقة البنوك- عن تصريف الدولار أو شراء الليرة، بصورة مطلقة. في الوقت ذاته، الذي يمكن فيه، التقاط مؤشرات حبس للسيولة من الليرة من جانب المركزي، عبر تجميد حسابات عدد كبير من السوريين، بذرائع مختلفة، أو تحديد سقوف متواضعة للسحب اليومي والأسبوعي. وهو ما دفع بعض المراقبين للتخمين بوجود شح بالسيولة من الليرة لدى المركزي ذاته، يصعب تحديد أسبابه –البعض يتحدث عن سرقات كبيرة من الليرة تعرض لها المركزي وفروعه بالمحافظات، في الساعات الأولى التي تلت إعلان فرار بشار الأسد-. وفي ظل الغموض غير البنّاء، الذي يعتمده المركزي، يزداد تعقيد المعضلة. فمع تأخير صرف الرواتب، وجمود حركة الإنتاج، والشح الكبير بسيولة الليرة في الأسواق، أصبح السوريون مضطرين لتصريف ما لديهم من الدولارات، للحصول على الليرة، للإنفاق على احتياجاتهم الأساسية.ويدور حديث مكثّف حول طبيعة من يتحكم بالسوق الموازية للصرف في سوريا. إحدى أبرز الأسئلة: من يقف خلف منصة "الليرة اليوم"، التي تعد أبرز المواقع المؤثرة في تحديد سعر الصرف الموازي؟ وفيما يتهم الكثيرون ثلة من تجار السوق بالتحكم بالأسعار، وخفض الدولار بغية لمّه بسعر منخفض قبل ارتفاعه مجدداً، يُطرح تساؤل جدّي حول مقدار وجود "تجار كبار" قادرين على التحكم بالسوق، في ظل هذه الكثافة غير المسبوقة لأعداد العاملين في تصريف العملة والإتجار بها، حتى أصبح هذا النشاط يشمل أصحاب البقاليات.وتبدو العلاقة في سوريا، اليوم، بين السوق الموازية –السوداء- وبين المصرف المركزي، فريدة من نوعها، وغير معتادة. ليس فقط في ذاكرة السوريين القريبة، بل أيضاً، قياساً بتجارب دول مجاورة. ففي المعتاد، تضغط السوق الموازية على المركزي لخفض سعر صرف العملة المحلية. وهذا ما كان يحدث في سوريا في 14 سنة الأخيرة. لكن اليوم، تضغط السوق الموازية بالعكس. الأمر الذي يجعل التحليل الفني لمسار سعر الصرف في الفترة المقبلة، صعباً للغاية، مع فرادة المشهد الذي تعيشه سوق الصرف السورية، اليوم.إحدى الأسئلة التي تُطرح من جانب المتخصصين، هل ستلتزم الحكومة بإعلانها رفع الرواتب بنسبة 400%، مطلع شباط/فبراير الحالي. حتى الساعة، لا يوجد ما يؤكد ذلك. فإن لم تلتزم الحكومة بهذا القرار، فسيُفسّر ذلك بأنه تأكيد للهواجس عن شح السيولة من الليرة، لدى المركزي ذاته. أما إن التزمت الحكومة بقرارها، فإن ضخ هذه السيولة الضخمة من الليرة في الأسواق، بعد فترة من الشح وجفاف السيولة، سيشكّل صدمة ستدفع سعر صرف الليرة في السوق الموازية إلى الهبوط بصورة دراماتيكية، ليتجاوز –على الأرجح- نظيره الرسمي.
من جانب السلطات، لا يوجد مخرج لهذه المعضلة، إلا توافر دعم خارجي بالقطع الأجنبي. وهو ما يجري الحديث عنه كثيراً، عن "وديعة" بالمركزي، في طريقها للوصول قريباً، من جانب قطر أو السعودية. وفي حال تحقق ذلك، يكون السبب النفسي الذي أدى إلى ارتفاع الليرة بصورة كبيرة في الأيام الأخيرة، قد تحوّل إلى واقع. فتحسّن الليرة منذ الأربعاء الفائت، ارتبط بصورة خاصة بزيارة أمير قطر إلى دمشق، ومن ثم، زيارة أحمد الشرع إلى السعودية. والتصريحات الإيجابية التي رافقت اللقاءين، والتي أوحت بدعم اقتصادي كبير آتٍ من هاتين الدولتين.وفي حال توافرت سيولة من القطع الأجنبي جراء الدعم الخارجي، لدى المركزي، فسيكون من السهل على هذا الأخير، إخراج السوريين من معضلة ارتفاع الليرة الأخير، عبر ضخ الدولار في الأسواق بالتوازي مع الإفراج عن سيولة أكبر من الليرة. ويجب أن يتم ذلك بنسب مدروسة –ضخ الدولار والليرة- كي لا ينخفض سعر صرف الليرة السورية مجدداً، وبصورة تحدث صدمة جديدة بالاتجاه المعاكس.أما إن لم يتوفر الدعم الخارجي قريباً، فسنرى ارتداداً دراماتيكياً في سعر الصرف بالسوق الموازية، بصورة تشكّل خسارة كبيرة لكل من باع الدولار في الأسابيع القليلة الفائتة. لذا، قد تكون النصيحة الأمثل، لمن يملك الدولار الآن، أن يتريّث في بيعه، وألا يخرج منه، إلا على قدر مصاريفه قريبة الأجل.