منذ أيام، خرج علينا أحد المؤثرين، والذي نشط إعلاميًا خلال سنوات الثورة السورية لتغطية أخبار ومآسي المناطق، التي كانت تتعرّض للقصف العشوائي من قبل جلاوزة النظام الحاكم، كمواطن/صحافي، بشريط فيديو يهنئ من خلاله السوريين بإلقاء جهاز الأمن العام القبض على سفاح درعا، ابن خالة بشار الأسد، العميد عاطف نجيب. ولقد "اشتهر" ابن الخالة هذا، إضافةً إلى فساده، وهي الصفة التي تقع على رأس أولويات النظام السابق لضمان الولاء، بوحشية إدارته للأيام الأولى من الثورة السورية. إضافةً، فقد صدر عنه تصرّف غير أخلاقي تجاه وجهاء درعا اعتُبِر سببًا مباشرًا لإشعال فتيل الثورة في 15 آذار/مارس من عام 2011.تجاوز المؤثِّر شديد الشعبية وواسع الانتشار، بتأثّر واضح، حدود التعبير الطبيعي والمشروع والمحمود عن الفرح بوقوع مجرم من هذا العيار "الرفيع" في يد العدالة. فقد قام بتزيين شريطه المصوّر بعبارات التشفي والعنف اللفظي، متصوراً بأن المجرم هذا موجودٌ الآن في مكانٍ حيث أن "بكرات ظهره تطقطق". وبأن "الكفّ على وجهه يرنّ رنًّا". أي بتعبير آخر، فقد اعتبر المؤثّر أنه من الطبيعي للغاية أن يكون هذا المجرم في هذه الأثناء، وبعد اعتقاله، يتلقى الضرب المبرح بحيث تُصدر وجنتاه نغمة الأوجاع، وكذلك تضرب فقرات ظهره طبول الانتقام. كما اعتبر بأن "الزمن يُعيد نفسه، ولكن مع تبديل الأدوار". أي يمكن ترجمة هذه "الإعادة" بالتالي: في الزمن الماضي، كان أطفال درعا وشبابها الثائر هم من يتعرضون للصفعات والضرب وتكسير الفقرات من قبل هذا المجرم وزبانيته. وأتى اليوم يوم الحساب، ليتلقى المجرم ما كان يُذيقه لضحاياه من قبل "شباب الأمن العام" كما ورد في حديث صاحبنا المؤثّر.وسرعان ما تنبّه المتحدث -الذي يتلقى البعض كلامه وكأنه مثال على ما تُصدّره الثورة من أخلاقٍ وقيم- إلى أن في حديثه تغيب بعض العبارات الأساسية، مثل "العدالة". فسارع إلى الإشارة إلى أن المجرم سيُقدم للعدالة لكي يُجيب عن جرائمه ويُحكم بما يستحق وفق القانون (...). وعوضًا عن إنهاء كلامه بهذه الإشارة العقلانية، عاد في نهاية الحديث إلى ممارسة العنف اللفظي وكأنه طرفة ظريفة مشيرًا إلى أن الحكم العادل سيصدر بحق هذا العميد المجرم "إذا بقي منه شيئًا حتى المحاكمة، لأن الشباب الرايج والجاي يضرب فيه". متوقعًا ألا يصل موعد محاكمة المجرم عاطف نجيب إلا ويكون قد قضى على يدي "الشباب" الذين سيشفون غلّهم فيه.من المؤكّد إلى أنه، ومن موقعي الباريسي، لن يستساغ مني أن أُعطي دروسًا باردة، كطقس باريس، في كيفية تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية، كما وعن ضرورة احترام حقوق الإنسان، وأخيرًا، التأكيد على اعتبار بأن إعمال القانون هو الأسلوب الأكثر نجاحًا في إحقاق العدل مهما بلغت جريمة المتهم قدرًا رفيعًا في قذارتها. ومن الطبيعي أن أكثر من خمسة عقود من الإجرام المادي والمعنوي الذي مورس بحق الشعب السوري يمكن أن يؤدي بالضحايا أو بأقربائهم، أو حتى بمن لم يكن قد تعرّض لقمعٍ مباشر، ولكنه ذو حسٍّ إنساني طبيعي يُميّز بين الخير والشر، للبحث عن طريقة انتقام لفظي غير مباشر غالبًا، أو جسدي مباشر أحيانًا. وهذا ينجم عن طبيعة الأشياء. لن أفاجأ مثلاً بقيام عنصر أو أكثر، عانوا هم او عائلاتهم بشكل مباشر، بصفع المجرم فور اعتقاله، رغم عدم قانونية هذا الفعل في المطلق. وإنما هو رد فعل بشري لسنا في معرض تحليل دوافعه وانتقاد الانحياز له. بالمقابل، على صنّاع الرأي، وفي عصرنا الحالي، "المؤثرين والمؤثرات" ومن في حكمهم هم في مقدمتهم، أن يعلموا بأن عصرنا المجنون يُقدِّمهم على أصحاب الفكر والقلم والنص. هم إذًا يلعبون أدوارًا على درجة عالية من الأهمية ومن الخطورة لتأثيرها في تفكير وتصرفات المتلقي. وهذا يفرض عليهم، إن كانوا أصحاب قضية مشروعة وعادلة كمؤثرنا المعني، أن يتنبهوا إلى خطورة وأثر ما ينطقون به.إن مجرمًا بمستوى المعني بهذا الشريط المصوّر يستحق أن يحاكم رغم أن إدانته واضحة، وأن يدان فيما بعد، وأن يُنفّذ فيه الحكم المناسب حسب القانون. إن اعتبار ان الزمن دوّار وبأن مجرم الأمس هو ضحية اليوم، كما يُفهم من أقوال المؤثّر حول تبادل الأدوار، هو أمرٌ خطيرٌ جدًا. إنه مؤشّر إلى استطاعة الضحية في أن يتقمّص شخصية الجاني ومنطقه. وفي هذا التقمّص فقدانٌ تامٌ لمبادئ ثورة قامت علىى أسس العدالة والكرامة والحرية.
منذ عدة سنوات، وعندما شرحت أمام ضباط شرطة منشقين عن النظام السوري ومتبنين لفكرة الثورة على الظلم والقمع، مبادئ الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1984، عبّر بعضهم على عدم اقتناعهم بالامتناع عن تعذيب المتهمين، لأنه وبرأيهم، لا يمكن بحال من الأحوال الحصول على اعترافات من المجرمين من دون اللجوء الى التعذيب، ولو في حدوده الدنيا. عرفت حينذاك، وبعد طول لأيٍ لم يصل معهم الى درجة الاقتناع، بأن الطريق ما زال في بدايته.