يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترامب مصرّاً وجادّاً في خطة تهجير أهالي قطاع غزة إلى مصر والأردن، وخيارات الفلسطينيين البديلة آسيوياً وأوروبياً، سواء المؤقتة أو الدائمة، من أجل إعادة الإعمار القطاع بموقعه الفريد وطقسه الساحر وسواحله الخلابة حسب تعبير ترامب، تهدف لتحويله إلى إمارة موناكو جديدة. المواقف الفلسطينية والعربية والدولية الرافضة للخطة جيدة بالتأكيد ولكنها لا تكفي وحدها لإفشالها ويحتاج الأمر بالضرورة إلى استراتيجية فلسطينية منظمة وجدية وواقعية وقابلة للتطبيق، تنال الدعم عربياً وإقليمياً ودولياً، كذلك لتحويل المواقف الرافضة إلى خطة عمل مضادة وناجعة، والأهم أن تكون بمستوى القضية الفلسطينية العادلة التي لا يمكن ولا يجب اختزالها في خطة إعادة إعمار أو تطوير عقاري لغزة على أهمية ذلك طبعاً.
خطة تهجيرإذن، تحدث ترامب الاثنين الماضي عن امتلاكه خطة لتهجير ونقل أهل قطاع غزة -مليون ونصف مليون منهم- بشكل مؤقت أو دائم إلى مصر والأردن وربما أندونيسيا شرق آسيا وألبانيا جنوب أوروبا من أجل تخليصهم من الحياة المأساوية، وإتاحة الفرصة أمام إعادة إعمار القطاع الذي تحوّل إلى منطقة مدمرة وأنقاض وركام، كما قال ترامب عن حق حتى لو أراد به باطل.اتضح بعد ذلك أن الأمر ليس هفوة وزلة لسان أو كلام عشوائي واستفزازي وابتزازي على الطريقة الترامبية، كما نرى تجاه كندا والمكسيك وبنما وغرينلاند، حيث ناقش فريق ترامب الفكرة فعلاً حتى قبل تسلمه السلطة وعودته إلى البيت الأبيض، وطرحها ترامب كذلك حسب تصريحاته العلنية في اتصالين هاتفيين مع الملك الأردني عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وزعم أنه قادر على إقناعهم بالخطة التي ناقشها مبعوثه إلى المنطقة ستيفن ويتكوف، في زيارته لفلسطين المحتلة هذا الأسبوع مع المسؤولين الإسرائيليين المنفتحين وحتى المتفاجئين بها وبجديتها.تتحدث خطة ترامب عن الواقع الراهن في قطاع غزة بعد الحرب الذي لم يعد مكاناً صالحاً للعيش، ومن أجل إعادة إعمار جدية لابد من نقل أهله –مليون ونصف مليون، ويبدو أنه أبقي نصف مليون كأيدي عاملة للشركات الأجنبية الأميركية تحديداً- إلى الخارج، مصر والأردن، ضمن منطق التطوير العقاري المجرد لإزالة الأنقاض الهائلة والشروع في إعادة إعمار عملاقة تحتاج إلى عشرات مليارات الدولارات -50 ملياراً تقريباً- وتستغرق سنوات طويلة أيضاً.يبدو المشهد كله وكأنه تعبير أو شرح لخطة تطوير عقاري مجردة، من دون أخذ الأبعاد والخلفيات التاريخية والسياسية بالاعتبار. وما يؤكد أن القصة ليس صدفة أو عشوائية يجب التذكير بما طرحه جاريد كوشنير صهر ترامب ومستشاره وذراعه الفعلي منذ أكثر من سنة، عن تهجير أهل غزة وإعادة إعمار القطاع الخلاب، في مقاربة عقارية وحتى انتهازية بحتة لتحقق مكاسب مالية وشخصية.زيارة ويتكوف بالسياق، أجرى مبعوث ترامب الى المنطقة ستيف ويتكوف، بحماية وإشراف جيش الاحتلال برفقة مبعوث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الفعلي رون ديرمر -السفير السابق بواشنطن- زيارة لممر نتساريم -وسط غزة- حيث أجرى دراسة ميدانية للأوضاع عن كثب. وأطلق تصريحات لافتة لتبرير خطة رئيسه عن دمار هائل بالقطاع غير القابل للحياة وعن عملية تعافي طويلة -10 إلى 15 عاماً- ومكلفة بمعنى إن تهجير (نقل السكان) سيكون في مصلحتهم.نالت الخطة بالطبع تأييداً إسرائيلياً واسعاً من أركان وداعمي الحكومة الأكثر تطرّفاً في تاريخ الدولة العبرية، ومثّلت بخطوطها العريضة أحد الأسباب المهمة لموافقة نتنياهو على اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت بغزة، كما قالت صحيفة "العربي الجديد" الأربعاء، ووصل الأمر بوزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى حد الدعوة لملاقاتها بخطط وآليات تنفيذية من الجانب الإسرائيلي.تنديد فلسطينيبناء عليه لم يكن مفاجئاً أن تواجه الخطة بتنديد ورفض فلسطيني من الجدار إلى الجدار، ومن الجانبين المعنيين المصري والأردني. كما رأينا رفضاً أوروبياً واسعاً، كذلك من قوى دولية مهمة وكبرى وبالطبع من الأمم المتحدة. كما كان رفض لافت حتى من الجمعيات الأميركية العربية التي دعمت ترامب بالانتخابات الأخيرة.هذا كله على أهميته غير قادر على إفشال الخطة، في ظل السيطرة الإسرائيلية العملياتية على قطاع غزة ومفاصله الرئيسية، مع منطقة عازلة تقتطع سدس مساحته الاجمالية، رغم المظاهر الاستعراضية للفصائل التي عجزت عن حمايته وأهله من آلة القتل الإسرائيلية. هذا معطوفاً على الهيمنة الأميركية والاندفاع من قبل إدارة ترامب لتنفيذ الخطة. بل إجبار الدول العربية والمجتمع الدولي على التعاطي الإيجابي معها.واقع غزةيجب الانتباه كذلك إلى الواقع الراهن بغزة، خصوصاً في الشمال ورفح وعودة النازحين، التي تم أخذها استعراضياً على أهميتها، ولم تحجب واقع الدمار الهائل وغير المسبوق بغزة، التي لم تعد قابلة للحياة، وأعادها الاحتلال سنوات بل عقود إلى الوراء حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي، حيث كان هذا أحد أهداف حرب الإبادة غير المعلنة رسمياً، لإيقاع نكبة جديدة بها كما قال الوزير آفي ديختر، بزلة لسان وتم توبيخه علناً عليها، ثم سحب الموضوع من التداول.وعليه، فإن إعمار غزة يمكن ويجب أن يتم لكن بخطة أو رؤية مناقضة لرؤية ترامب، تستند إلى توافق فلسطيني على إنهاء الانقسام وتشكيل حكومة موحدة من شخصيات وطنية كفؤة ونزيهة لقيادة عملية الإعمار بشفافية واقتدار، مع تقديم خطة جدية بعيداً عن الاستعراض أو الخطب الرنانة، كما تفعل سلطة رام الله.
لا يجب الخجل كذلك من مفاهيم سلطة -شرعية مصداقة- وقانون واحد وسلاح واحد لضمان عدم عودة الحرب. كما تشجيع الانخراط بالإعمار ضمن مواكبة وعربية وإقليمية دولية، وأفق سياسي ومسار جدي لا رجعة عنه نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة .
إذا تم الاكتفاء بالخطاب الحماسي حتى مع الصمود الذي لم يمنع تدمير غزة وتحويلها إلى منطقة غير قابلة للعيش، فلن تكون هناك قدرة على إعاقة الخطة وإعادة الإعمار وفق التقويم الترامبي وبالحد الأدنى إبقاء غزة مدمرة، حيث تقول الأمم المتحدة أن إعادة الإعمار ستستغرق 15 عاماً على الأقل، في حالة كانت الوتيرة- إدماج غزة فلسطينياً وعربياً ودولياً- أفضل خمس مرات على الأقل مما كانت قبل الحرب. وإذا استمرت الحالة نفسها وأمام الدمار الهائل فقد تستغرق سنوات بل عقود طويلة أيضاً.