تعود القضية الكردية إلى الواجهة السياسية من جديد، بعد خطاب النصر للرئيس السوري أحمد الشرع. إذ لا يمكن أن نغفل أنه لطالما كانت هذه القضية محوراً معقداً في المشهد السياسي والعسكري، قبل ثورة 2011 وخلالها، واختصارها بالتشكيل العسكري "قسد" أو المجلس الوطني الكردي ربما يكون في غير صالحها، لأنها أوسع من مصالح كليهما. وهي أحق بالحضور الدائم ضمن الحل السوري الشامل، كجزء لا يتجزأ من القضية السورية العادلة والمحقة، التي ثار من أجلها السوريون وكللوا ثورتهم بنصر كبير وهزيمة سلطة القمع والاستبداد.الأكراد أحد مكونات الشعب السوري، رغم أنهم جزء من قومية كردية، تماما كما أن السوريين العرب بغض النظر عن مرجعياتهم الدينية والأيديولوجية جزء من قومية عربية. لهذا يحق لهم المطالب ذاتها من حقوق المواطنة السورية المتساوية وكل ما يندرج تحت هذا العنوان. كما أن عليهم واجبات تجاه الدولة والمجتمع. ما يعني أن ما يسري على المدنيين والمسلحين يسري عليهم، وهو ما يطرح التساؤل حول مصير "قسد"، القوة العسكرية المحسوبة عليهم، وأسباب التعامل "الرسمي" معها كمكونات محلية وخارجية، وما يتطلبه ذلك من البحث عن حلول سياسية، تجعلها لا تفقد تصنيفها المحلي، لحساب مكوناتها الخارجية، أياً كانت نسبة حضورهم داخلها.
ففي ظل التطورات الأخيرة، أصبح من الضروري إعادة قراءة الواقع السوري بعين جديدة، للطرفين: الدولة السورية وقسد. خصوصاً مع المتغيرات المتسارعة في المواقف الدولية والإقليمية. ويمكن القول إن حكومة الشرع نجحت في فرض نفسها كلاعب أساسي على الساحة السورية، وباتت تحظى بقبول عربي وازن، يمكنه التأثير الفعلي على الموقف الغربي أو تخفيف حدته تجاهها. إلا أنه في المجمل، يمكن القول إنها حكومة غير مرفوضة أميركياً حتى الآن، حيث الإعلان عن إنشاء جيش سوري جديد إلى جوار الدول الإقليمية، وتحديداً إسرائيل ليس مسألة داخلية فقط.
ما يعني أن المنطقة عموماً أمام خريطة قوى جديدة تتغير معها التحالفات والمهام، ومنها الغاية الأساسية التي جعلت من قسد على قائمة رعايا الجيش الأميركي، أي مهمة قتال داعش في المنطقة. وهي المهمة التي كانت الفصائل المعارضة ترفض التفرغ لها، بعيداً عن مهمتها في رد عدوان جيش بشار الأسد على السوريين.وبعد سقوط الأسد، سيكون من المنطقي الحديث عن مهمات جديدة للجيش السوري، من بينها محاربة الإرهاب وأي قوى خارجة عن سيطرته. ما يعني أنه يضع خياراً جديدا أمام السياسة الأميركية، وتحت مظلة الشرعية الدولية. فهل تضحي الأخيرة بهذا الطرح؟ وخصوصاً أن مثل هذا التحول يعني التعامل مع سوريا كدولة، ما يفتح أمامها مجالات لصفقات أكبر مع المحيط الإقليمي كاملاً، أي تركيا، إسرائيل، الدول العربية، ومنها سوريا؟ هذا السؤال لا بد أن "قسد" طرحته على نفسها، وستجد من خلال خطاب الشرع الإجابة الوافية عن الأسباب الموجبة لإمكانية أن تفقد أحد أكبر الداعمين لوجودها، ككتلة عسكرية منفصلة عن جيش الدولة السورية.
ومن جهة أخرى، فإن علاقة الحكومة الجديدة المتينة مع تركيا تمنح الأخيرة مجالاً واسعاً للمناورة، حيث قد تجد أن دعمها لحكومة الشرع يمنحها فرصة لضمان مصالحها الأمنية في شمال سوريا، وعلى رأس أولوياتها طبعاً تحييد أي قوة عسكرية خارجة على إجماع إرادة الدولة، في وقت يبدو فيه الاعتماد على الدعم الأميركي المتردد في مواجهة ما تستعد له المنطقة تهرّب من قراءة الواقع، أو أقله، العيش في وهم الماضي. فهل تخرج قسد من عباءة الحماية الأميركية لتدخل تحت سقف الجيش الوطني؟ يبقى هذا السؤال معلقاً حسب معطيات الصفقات الدولية المقبلة في شرق أوسط ليس ما نعرفه أو تتوقعه "قسد".فالوضع في سوريا بالتوازي مع كل ما يحدث في المنطقة، إسرائيلياً وفلسطينياً ولبنانياً وتركياً، إضافة إلى تحول واضح في علاقة كل هؤلاء مع الدول الخليجية، يشهد تحولات جذرية قد تعيد رسم خريطة النفوذ والتوازنات داخل البلاد إلى نقطة المركز، وهي حكومة الشرع، مع احتمال بروز ترتيبات إقليمية جديدة تحمل في طياتها فرصاً وتحديات لجميع الأطراف الفاعلة والمتفاعلة مع الواقع السوري الجديد.
للتنويه، سياق مقالتي هذه لا يعني تراجعي عن موقفي من حق الكرد في مواطنة متساوية في وطن يحفظ حقوق كل أبنائه، كما أنها ليست تراجعاً عن موقفي المتحفظ من الدولة المركزية، التي تعيق التنمية العادلة في كل المناطق السورية، فاللامركزية أو "الفيدرالية الجغرافية" -وأشدد هنا على توصيفها بالجغرافية- أي من خلال تطوير قانون الإدارة المحلية، الذي يعد حلاً ممكناً للتنمية المستدامة، والحد من التفاوتات بين المناطق المختلفة، وإلغاء حلقة من الفساد الإداري، ما يحقق استقراراً أكبر ويعزز وحدة البلاد، التي لا تزال مجرد أحلام لماض مثقل بالتمزق وحاضر مثقل بالأولويات المفقودة.