"سلوا كؤوس الطلا". تعد هذه القصيدة من عيون القصائد التي كتبها أحمد شوقي وغنتها أم كلثوم من الحان رياض السنباطي.
ولكن ما هي قصة هذه الأغنية الاثيرة في ريبرتوار أم كلثوم ومسيرتها في الغناء العربي؟ هناك قصتان، القصة الأولى روتها د. نعمات أحمد فؤاد في كتابها عن أم كلثوم. وتقول فيها إنه في العام 1932 وجه شوقي الدعوة لأم كلثوم للغناء في حفل يدعو فيه أحد النبلاء ولبت أم كلثوم الدعوة وغنت في كرمة ابن هانيء أمامه. وشعر أمير الشعراء بالسعادة والحبور وقام يحيي أم كلثوم وقدم لها كأساً من الطلا، أي الخمر. وتصرفت أم كلثوم بلباقة ورفعت الكأس لكي يمس شفتيها ولم ترتشف قطرة لأنها لا تشرب الخمر. ترك هذا الموقف أثراً في روح شوقي فكتب قصيدة رقيقة. وفي الصباح أرسلها مع سائقه في مغلف مغلق لأم كلثوم. اعتقدت أم كلثوم أنه أرسل لها مكافأة مادية على غنائها لكنها اكتشفت قصيدة جميلة مكتوبة عنها واسمها مذكور في آخر أبياتها. بقيت القصيدة ردحاً في أدراج النسيان. وبعد رحيل شوقي بسنوات عهدت أم كلثوم بالقصيدة إلى الموسيقار رياض السنباطي (الذي أعجب بالقصيدة) إلى تلحينها وقد عمل فيها لسنة كاملة. وعهدت إلى الشاعر أحمد رامي إلى تغيير نهاية قصيدة شوقي وحذف اسمها في البيت الذي يقول: يا أم كلثوم أيام الصبا ذهبت إلى يا جارة الإيك أيام الهوى ذهبت. وكذلك تعديل البيت الذي يقول فيه: سل أم كلثوم من بالشجو طارحها إلى حمامة الأيك من بالشجو طارحها. وغنتها أم كلثوم لأول مرة في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1944 على مسرح الاوبرا الملكية في القاهرة. وهناك قصة ثانية كتبها الصحافي مصطفى أمين في كتابه "أسماء لا تموت" ويقول فيها إنه تلقى دعوة من أحمد شوقي لحضور حفلة في داره بالجيزة وغنت أم كلثوم فيها "اللي حبك هناه". وبعد انتهاء الوصلة أخذ أمير الشعراء أم كلثوم من يدها وصحبها إلى مكتبه. وسمعنا صوت أم كلثوم يصيح بغضب: "لا مستحيل، لا يمكن أبداً". وسمعنا شوقي يقول في صوت متوسل: "أرجوك، لا يمكن أبداً".
زاد غضب أم كلثوم وقالت: "انك تهينني في بيتك". وفتحت الباب بعنف وهي تقول: "هذا عيب". وشوقي يرد: "سامحيني... سامحيني". يتابع مصطفى أمين ويقول انضم شوقي إلينا وقال إنه قصد أن يدفع لها أجر الموسيقيين ولكنها رفضت ذلك، وقالت إنها تدفع مصاريف الفرقة من جيبها. وبعد إلحاح عدّلت أم كلثوم عن الخروج من السهرة وغنت في الوصلة الثانية: "هو ده يخلص من الله ... القوي يذل الضعيف". وأثناء الغناء تقدم شوقي وبيده كأساً من الويسكي وجلس إلى جوارنا - يقول مصطفى امين - واخرج من جيبه علبة سجائر وقلما وكتب عدة كلمات على العلبة ثم اندمج في الغناء. وروت أم كلثوم لاحقاً انها فوجئت في اليوم التالي بشوقي يزورها في بيتها وقدّم لها مغلفاً مقفلا وثارت أم كلثوم ثانية: "ألم يكفيك انك حاولت أمس أن تهينني في بيتك واليوم تهينني في بيتي". ابتسم شوقي وطلب اليها أن تفتح المغلف وترى ما فيه. وأردف شوقي: "هذه ليست فلوس. هذا هو وصفي لك وأنت تغنين".
ينقل مصطفى أمين ما قالته له أم كلثوم، فحين فتحت المغلف وجدت فية أكبر أجرٍ تلقته في حياتها وهي قصيدة شوقي "سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها".أطلعت أم كلثوم بعض الأصدقاء على القصيدة وألحوا عليها -وبينهم أحمد رامي- أن تغنيها. لكنها رفضت معتبرة أن القصيدة هي رسالة خاصة من شوقي، وأنه لم يطلب منها أن تغنيها.
مضت عشر سنوات قبل أن تغنيها. وإذا كانت قصة مصطفى أمين تبدو أكثر اقناعاً وتماسكاً وترجيحاً من قصة الدكتورة نعمات احمد فؤاد، فإن ما يبقى في النهاية ليس تشابه القصص واختلافها. ما يبقى هو خلود القصيدة في الغناء العربي إذ تعيش وتستعاد مثل حنين الزمن إلى نفسه، وإلى رموزه الكبار.