سمعت لأول مرة بإسم السجين المحرر من السجون الإيرانية بعد 19 سنة إعتقال، البقاعي الجذور والهوى، عمر شلبي، من صديقتي الشاعرة حكمت حسن، التي استفاضت بالحديث عنه وعن ثقافته العميقة التي حصدها من خلف قضبان الزنزانة والسجن الإنفرادي (عشر سنوات). مر اسمه عابراً في مخيلتي، وحسبته مجرّد تجربة "أدب السجون". ثم حدث أن التقيته بعد سنوات في "ملتقى العروة الثقافية" في بر الياس في البقاع الأوسط. بدا لي خلال النقاش مثقفاً صلباً، عنيداً، واضح الرأي ولا تنقصه عصبية الموقف. منذ أشهر قليلة مضت، قرأت كتابه "مقبرة مهددة بالحياة: أوراق وأيام في السجون الإيرانية"، الصادر عن "دار النهضة العربية" سنة 2023، ففي 473 صفحة، يفصّل شبلي عوالم السجن التي يعتبرها "كشفاً واضحاً لأقاليم الروح والجسد، فيه عرفت بدقة حياة الموتى، لكني لم أكن جنائزياً في معظمه... كان نهر حياتي جافاً، ولكنني كنت أنتظر المطر". تحت شعار "الروح والجسم لا يجتمعان في سجن"، يسرد لنا الكاتب عقدين من الزمن قضاهما في المعتقلات الايرانية بعد تطوعه في الحرب العراقية الايرانية ليقينه أن "عربستان" هي أرض عربية. تجربته القاسية تتخطى حدود الخيال أمضى منها 10 سنوات في الزنازين والسجون الانفرادية..."كان الزمن جاثماً كالفيل على إحساسي... كنت كمن يحاول أن يملأ برميلاً لا قعر له".
استعاد عمر شبلي ذكرياته المرة بعد 17 عاماً من خروجه من السجن رغم "أن النسيان من أفضل نعم الله على عباده"، ولا يخفي تمنيه لو أن تلك الحرب لم تقع لأنها أزهقت الملايين من أرواح البشر. رأى كل أنواع الأسرى: المعمم الهارب من العراق، والأسير "التواب" وهو من أسوأ أنواع الأسرى، والأسير الذي أصيب بضياع عقله حتى الإقدام على الانتحار، والأسير الذي تزوج أخاه زوجته ظناً منه أنه ميت...". رأيت أسرى يسكنهم التعصب المذهبي من الطرفين، وكانت إزالة هذا التعصب صعبة وقاسية للأسف". كما عرف الأسير شبلي خبرات ومواقف انسانية ملفتة من بعض سجانيه. فسرد قصة فتاة إيرانية معوقة جسدياً، وأخيها الجندي "شهريار رضائي" التي أهدته جوارب صوفية بعد أن سمعت قصته من أخيها. فأهداه شبلي بعد خروجه من السجن ترجمته لشعر حافظ الشيرازي. ويذكر أن أحد الحراس الايرانيين في معسكر "برندك" كان يهّرب له البرتقال أو التفاح سراً ويطلب منه أن يأكلها سراً خوفاً من العقاب.خلال أسره، لم يكتب شبلي بالقلم والورقة. كان يحفظ ما كتبه عن ظهر قلب. وبقي يحمل سجنه معه يوم خرج من سجن المكان. يستشهد بقول الخنساء معزياً نفسه: "ولولا كثرة الباكين حولي، على اخوانهم لقتلت نفسي". وحين خرج من السجن رأى "الزمن شيخاً وطفلاً في آن... والدول يأكل بعضها بعضاً".
خاض المؤلف عمادته الحربية الأولى في معركة "ديز فول" القاسية، حيث اكتشف أن الحرب لا تبقي للمنتصر إلا المآسي والويلات والفواجع، فكيف للمهزوم! يقع شبلي في الأسر في 26-3-1982، ويقرّر من اليوم الأول "أن أعيش إنساناً كبيراً وأنا أسير.. لن أتنازل لأحد، ولن أخون كبريائي ورجولتي". ويشير إلى أن بعض الجنود الإيرانيين كانوا يسلبون الأسرى العرب مالهم وساعاتهم وخواتمهم. تعلم كيف يكتشف أعماق نفسه ويكتسب بعداً فلسفياً في فهم الوجود. يقول "كل إنسان في هذه الدنيا يحمل في ذاته أكثر من انسان. بقي متماسكاً رغم صدور حكم الإعدام بحقه. تجربة سجنه الماراتونية عززت وقوّت إيمانه. يقول "ولكن الجمال يبقى أعلى ما يسكبه الله في موجوداته، ويبقى وحده الدليل على البديع...". والبديع يدل على المبدع، فالجمال معصوم ودليل عال من أدلة الايمان".
"أنني أخشى من ذلك الرجل الذي تعتمد ثقافته على كتاب واحد"، توما الأكويني. يستشهد الكاتب بهذه الحكمة للإشارة الى التعصب خلال تجربة الأسر ونفعية تسخير الدين لغايات سياسية. فالتعصب ظلام، والإيمان ضياء. أحد سجانيه أساء معاملته بسبب اسمه فقط. "المتعصب هو مخلوق غير متوازن من البشر. ويشير البشير إلى قول جلال الدين الرومي "العبادات من دون جب عبء". مثلاً، في السجون الإيرانية كانوا يمنعون المساجين المسيحيين من دخول "تواليت" المسلمين. يُعرب عمر شبلي عن إعجابه الشديد بالشيخ راغب حرب الذي التقاه في السجن. وهو كان نقيض "الشيخ عرب" الذي كان يستمتع بإهانته ووضعه في الانفرادي بعد إغتيال الشيخ حرب في الجنوب اللبناني. كان "الشيخ عرب" يأمره بالزحف على الجليد ويضع رجله على رقبته. في "آراك مخصوص" كانت أصعب مرحلة من مراحل الأسر الطويلة. فيقول "ما أصعب موت الزمن فيك وأنت حي!" معظم الأسرى كانوا يسقطون ويستسلمون ويتحولون إلى "توابين" بسبب الجوع، عدا عن التعصب الديني، والخوف، والقضايا الأخلاقية. كان الأسير بمثابة قتيل لا يزال على قيد الحياة. يفصل لنا شبلي كيف تعلم إنقاذ نفسه: "كان الكثير من الناس يسكنونني وكنت أناقشهم وأحاورهم.. ؤإن الوهم كان مخلوقاتي التي لا تموت". و"كان خروجي من الانفرادي يوازي عودتي إلى لبنان"."لأنه فيك وأنت فيه"... هكذا يرى العلاقة بين الله والانسان في أحلك الظروف. ويعبر عن قسوة السجن الإنفرادي "كان الأسود يغتال روحي"... كل يوم كنت أخلع موتاً لألبس غيره. وجد ضالته في الشعر "القصيدة تشبه المسكنات، وفي الأحلام خلال النوم.."، اذا رأيت سجيناً نائماً لا توقظه.
صباح يوم أيلولي سنة 2000... زارته ابنته. تركها عمرها 9 سنوات والتقاها وعمرها عمرها 29 عاماً. أتت من لندن لزيارته. بعد 3 أيام في 19 ايلول سنة 2000 كان يوم الاقلاع... كتب في إحدى قصائده: "أنا لن أموت بغير حضنك يا بقاع". في المطار، صدمته رؤية الناس تحمل الهاتف الخليوي. "كنت أشعر في تلك اللحظات أنني احمل سجني في داخلي رغم الثياب الجديدة ورغم امتلاء المنزل بالزوار".
يضيء عمر شبلي على شهادة محمود كاظم محمود التميمي في كتابه "ويبقى النضال مستمراً طالما في القلب نبض وفي العروق حياة..": الأسير عمر محمد شلبي هو شخصية عربية جمعت خصائل وظرافة وبشاشة، وسريع البديهة وكثير المزاح، وهو مثقف ثقافة سياسية عالية، وثقافة أدبية واسعة، يعشق لبنان وفيروز والشعر العربي. ذكي وشاعر كبير. شُخّص من قبل الإستخبارات الإيرانية أنه شخص مؤثر في وحدة وتماسك الأسرى العرب. كان الأب الحنون لجميع أسرى "آراك مخصوص". وقد تعمدت الاستخبارات الإيرانية إخفاءه عند قدوم اللجنة الدولية للصليب الأحمر حتى لا يسجل في سجلات الأسرى ويسلم هوية الصليب الأحمر الدولية".
ويشدّد على حقيقة أن التآخي الذي ينشأ بين المعذبين لا يدرك مدى حضوره وتأثيره إلا الذين عذبتهم الحياة، وهو أيقن بالتجربة أن التجارب القاسية هي التي تجعل الإنسان نقياً، وأن الخوف يصنع القوة:"فلا بد من انتصار الإنسان فينا على الذئب". قاوم عمر شبلي عالم السجون وحياة الأسر ببسالة، فأضرب عن الطعام وعاش على حفنات من الملح كان يخبأها في وسادته، متسلحاً بقدرة عالية على إلغاء الزمان والمكان، وقاوم الجنون بخيال عبقري، "لأن الانفرادي هو محاولة لتحويل العاقل إلى مجنون".