ربّما يكون أبرز ما اتّصف به الخطاب الذي ألقاه السيّد أحمد الشرع قبل ثلاثة أيّام، بوصفه الرئيس الذي بويع بقيادة المرحلة الانتقاليّة في سوريا، أنّ الرجل توجّه أخيراً إلى الشعب السوريّ دون سواه، بكلام مباشر وشفّاف. مشكلة الشرع أنّه كان يلقي الخُطب هنا وهناك، ويدبّج الأحاديث لهذه المحطّة التلفزيونيّة أو تلك، لكنّه ما كان يخاطب الشعب السوريّ. أمّا وقد تمّت توليته رئيساً للبلاد كي "يقوم بمهام رئاسة الجمهوريّة العربيّة السوريّة" إبّان المرحلة الانتقاليّة، فقد انبرى الشرع إلى مخاطبة السوريّات والسوريّين بلغة واضحة تنمّ عن الكثير من التواضع، هذا إذا افترضنا أنّ الكلام يفصح عمّا يعتمل في السرائر، إذ اعتبر نفسه لا حاكماً، بل "خادماً" للوطن الجريح. والحقّ أنّ هذا الخطاب غير معهود في أدبيّات السوريّين السياسيّة، وهو يسجَّل للقائد الذي دخل قصر الشعب على رؤوس الرماح.
يشتمل خطاب السيّد أحمد الشرع، من موقعه كرئيس، على جملة من الأمور التي تسترعي الانتباه، ويمكن تثمينها إيجابيّاً: اعتباره أنّ التحوّل في سوريا صنعه الشعب السوريّ على نحو جماعيّ "بفضل كلّ إنسان ناضل في الداخل والخارج"، مع تطرّقه إلى حمزة الخطيب، المراهق الدرعاويّ الذي أطلق مع أصحابه شرارة الثورة السوريّة المجيدة؛ دعوته إلى فتح فصل جديد من فصول التاريخ السوريّ يمتاز ببناء مؤسّسات الدولة على قاعدة العدل، وهو "أساس المُلك" كما قالت العرب؛ تشديده على وحدة سوريا وعلى ضرورة مشاركة الجميع في مرحلتها الانتقاليّة مع تأكيد دور النساء والشباب؛ وأخيراً رسمه شيئاً من خريطة طريق لهذه المرحلة تنطوي على تشكيل حكومة انتقاليّة شاملة وتأليف مجلس تشريعيّ مصغّر وعقد مؤتمر وطنيّ، على أن يتوَّج هذا كلّه بإعلان دستوريّ يسوس شؤون الجمهوريّة السوريّة على طريق سنّ دستور جديد لها. كذلك أشار الباحث الصديق الدكتور نجيب جورج عوض، في تعليق له على خطاب الشرع، أنّ أحد مواطن القوّة في هذا الخطاب يكمن في نأيه عن لغة المكوّنات والطوائف والأقلّيّات والغالبيّة، واكتفائه بمخاطبة السوريّات والسوريّين بوصفهم ينتسبون إلى سوريا فحسب.لا ريب في أنّ هذا كلّه يوحي بالطمأنينة ويدعو إلى الارتياح. لكنّ اللافت أيضاً أنّ الحاكم الجديد في الشام تجنّب الخوض في مسألة الجدول الزمنيّ لخريطة طريقه. فهو لم ينبئ الشعب السوريّ، ولو على نحو مبدئيّ أو تقريبيّ، بوقت حصول هذه الأمور وما تستوجبه من خطّة زمنيّة. من النافل القول إنّ قلوب السوريّات والسوريّين كانت لتطمئنّ أكثر لو عرّج السيّد الشرع على معضلة الوقت حتّى لو اتّخذ هذا التعريج مظهر الضعف، أي مظهر مصارحة الناس بتعذّر وضع جدول زمنيّ لهذه الأمور جميعها في الوقت الراهن.إنّ ملاحظةً من هذا النوع تأخذنا من دون مواربة إلى الهنات الأخرى التي اعترت خطاب الشرع. ولعلّ أبرزها أنّ الرئيس الجديد لم يتوجّه إلى السوريّين والسوريّات بوصفهم مواطنين ومواطنات، بل بوصفهم "إخوةً وأخوات"، حتّى إنّ لفظ "مواطنة" غاب كلّيّاً عن النصّ الذي ألقاه. يضاف إلى ذلك غياب لفظ آخر هو الديمقراطيّة. ويبدو أنّ الرئيس المنصّب حديثاً ارتأى التعويض عن هذا الغياب عبر استخدامه لفظ "شورى" حين تكلّم على "بناء وطن جديد يُحكم فيه بالعدل والشورى معاً". لئن كان مفهوم الشورى مفهوماً راقياً لكونه يمجّ التفرّد ويستسيغ أخذ رأي الآخر في الحسبان، إلّا أنّه يحيل أيضاً على أنظومة الشرع الإسلاميّ، ولا يمكن اعتباره في أيّ حال من الأحوال مرادفاً للديمقراطيّة من حيث كونها نظاماً حديثاً للحكم. هذه الصبغة الدينيّة تظهر بوضوح أيضاً في حرص الشرع على استهلال خطابه بالبسملة وطلب الصلاة والسلام على رسول المسلمين وآله وصحبه واختتامه هذا الخطاب بالحمد لله ربّ العالمين. طبعاً، ربّما يكون مردّ هذا كلّه أنّ أحمد الشرع يأتي من انتماء لا لبس فيه إلى التراث الإسلاميّ، ومن حركة إسلامويّة لم تسقط عنها بعد صفة التطرّف. لكنّ المشكلة اليوم أنّه يخاطب الشعب السوريّ بوصفه رئيساً له، ولو لمرحلة انتقاليّة. وهذا الشعب يضمّ عدداً لا يستهان به من غير المسلمين. ويضمّ كذلك مسلمين ذوي تفكير علمانيّ يحلو لهم أن يكون كلام رئيسهم جامعاً، بمعنى خلوّه من المفردات الدينيّة، ويستكرهون إقحام الدين في اللغة السياسيّة.ثمّة من يزعم أنّ السيّد أحمد الشرع ماضٍ في التحوّل التدريجيّ من الإسلامويّة المتطرّفة إلى علمانيّة براغماتيّة، لكنّه مضطرّ إلى مداراة الصقور الذين صنعوا معه التغيير العظيم، وهم من غلاة الإسلامويّين. وثمّة من يعتبر أنّ ما يحدث اليوم على ضفاف بردى إنّما هو خدعة كبرى هدفها أسلمة الدولة السوريّة على غفلة من العالم، بما ينسجم مع إيديولوجيا الإسلام السياسيّ. وهناك من ينظر إلى تضاعيف المشهد السوريّ فاغراً فاهه، وقد استحوذت عليه حيرة ما بعدها حيرة. فلا يجد ترياقاً إلّا اللياذ بالحكمة التي أنشدها طرفة بن العبد ذات يوم مشمس من أيّام الصحراء العربيّة قبل أن يهبط عليها وحي الإسلام: «"ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلاً/ويأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ".