في الذكرى الخمسين لوفاة كوكب الشرق أم كلثوم، لا بد من العودة إليها، والبحث عن أسباب خلود صوتها وأغانيها وتشريح سيرتها وحضورها، والبحث عن اشيائها ومزاياها وفتنتها... هنا مقال أول عن عشية وفاتها. خمسون عاماً مضت على رحيل أم كلثوم ولا تزال كما هي حاضرة في الأذهان والوجدان. لم ينقطع صوتها أو يخفت ذكرها، وكأنها ما بارحت دنيانا في ذلك اليوم، الثالث من شباط قبل نصف قرن من الزمان. لم تكن أم كلثوم مجرد صوت أسر القلوب والآذان، وإنما كانت عنواناً لعصر بأكمله، ورمزاً عربياً أصيلاً التف حوله الملايين من المحيط إلى الخليج وتوحد في عشقه كل الناطقين بالعربية، بل وحتى وغير الناطقين بها.من عاشوا مثلنا وقت رحيل أم كلثوم يعرفون تماما كم كان الحدث مفجعاً والمصاب أليماً، وكيف وقفت مصر على أطراف أصابعها تتابع الساعات الأخيرة في حياة كوكب الشرق، وكيف تقدمت أخبار حالتها الصحية على كافة الأخبار الرسمية للدولة، ليحتل اسم سيدة الغناء العربي العناوين العريضة للصحف ويتصدّر نشرات الأخبار في كافة الأقطار العربية، فإذا ما أُعلن النبأ الحزين، افترشت ملايين الناس الشوارع في مشهد مهيب لم تكن مصر قد ألفته.
لم يكن رحيل أم كلثوم مفاجئا – على أية حال – فقد سبقته مقدمات كثيرة كانت تنذر باقتراب الرحلة الطويلة من نهايتها، بعد أكثر من سبعين عاماً عاشتها هذه النبتة الريفية البسيطة ابنة دلتا النيل، حتى وصلت إلى قمة المجد الغنائي الذي لم يصل إليه أي صوت عربي آخر. وربما كانت وصلتها الغنائية الثانية في حفلتها الجماهيرية الأخيرة، في الرابع من كانون الثاني 1973، بداية النهاية لذلك المشوار الطويل. في تلك الليلة الشتوية الباردة، وفي صالة سينما قصر النيل في القاهرة، تحدت أم كلثوم إحساسها بالإعياء عقب انتهائها من أداء وصلتها الأولى، وظهرت على خشبة المسرح لتشدو بأغنية "القلب يعشق كل جميل" (شعر محمود بيرم التونسي ولحن رياض السنباطي). بدا صوتها متعباً، وكان واضحاً حرصها على تحاشي المناطق الصعبة في الأداء، وشعرت هي قبل جمهورها بأنها لم تعد تملك ناصية صوتها مثلما عوّدتنا. وها هو الزمن يقول كلمته القاسية، حتى إنها لم تستطع تلبية رغبة الجمهور كعادتها في إعادة أحد مقاطع الأغنية للمرة الثالثة، فاكتفت بارتجال دعاء مؤثر تمنت فيه النصر لأمتها، وأومأت إلى عامل الستار كي يسدله. وفور تأكدها من أن أحدا من جمهورها لا يراها وضعت كوكب الشرق وجهها في منديلها الشهير وأجهشت بالبكاء على العمر الذي ولى. ليلتها، أدركت أم كلثوم أن هذا هو لقاؤها الجماهيري الأخير مع عشاقها، إذ إنها لم تغنّ بالفعل بعد هذا اليوم سوى أمام ميكروفون الإذاعة المصرية في الثامن من نيسان 1973، حينما شدت بأغنية "حكم علينا الهوى" (شعر عبد الوهاب محمد ولحن بليغ حمدي). وحتى أثناء حرب أكتوبر1973، غاب صوت أم كلثوم مرغماً، عن التعبير عن فرحة الانتصار وهو الذي لم يغب عن مشهد الهزيمة في 1967. واكتفت الإذاعة المصرية بتكرار بث أغنياتها الشهيرة، لا سيما "راجعين بقوة السلاح – الله معك"، لكن سيدة الغناء العربي أبت أن تغيب عن مشهد الانتصار، فكتبت في مجلة "الكواكب"، في 23 من تشرين الأول، كلمة إلى الجنود المصريين تبشرهم باكتمال النصر، وأبرقت إلى الرئيس المصري أنور السادات بعد عشرة أيام تعلن تبرعها بمبلغ 15 ألف جنيه (عشرة لصالح المجهود الحربي وخمسة لصالح جمعية الهلال الأحمر)، وردّ عليها الرئيس المصري في 11 تشرين الثاني يشكرها على عظيم عملها ويثمن مواقفها الوطنية المعتادة.
ثم كان آخر ظهور رسمي لها في التاسع من أيار 1974، حين وقفت بجوار الرئيس السادات في مستشفى المعادي للقوات المسلحة، خلال حفلة تكريم جرحى الحرب. ومنذ تلك الليلة، استسلمت أم كلثوم لأزماتها الصحية المتلاحقة ورحلاتها العلاجية المتتالية، حتى كانت الأيام الأخيرة من كانون الثاني 1975 حينما اشتدت عليها حالتها الصحية، خصوصاً متاعب الكلى، فأدخلها زوجها الطبيب حسن الحفناوي غرفة العناية الفائقة في مستشفى المعادي وهي في حالة غيبوبة نتيجة ارتفاع ضغط الدم. وتسارعت الخطى الطبية لإنقاذ حياة كوكب الشرق، وتصدرت أخبارها عناوين الصحف متقدمة على الأخبار السياسية أو الرسمية للدولة، وظل رئيس الجمهورية يتابع تطورات الحالة الصحية. وفي الثانية من عصر الأول من شباط، بدأت تتوالى عمليات نقل الدم الذي بات ملوثاً بحكم نوبات الفشل الكلوي، وتواصلت مشكلات عضلة القلب. أذكر أنني كنت، في العاشرة من مساء ذلك اليوم الأول من كانون الثاني، أتابع نشرة الأخبار، ففوجئت كما فوجئ الملايين برئيس الوزراء المصري عبد العزيز حجازي ينعي في صدر النشرة إلى الأمة العربية وفاة كوكب الشرق، وبعد ثلاثين دقيقة جاء التكذيب سريعاً من مستشفى المعادي، مؤكداً أنها فقط تمر بحالة حرجة للغاية لكن قلبها ما زال ينبض. وفي صباح اليوم التالي، توجه رئيس الوزراء ووزير إعلامه الدكتور أحمد كمال أبو المجد، إلى المستشفى، يقدمان اعتذارهما إلى أسرة أم كلثوم عن هذا الخطأ الجسيم. لكن الساعات التالية حملت تطورات سريعة انتهت صباح اليوم التالي بالإعلان الفعلي عن وفاة كوكب الشرق، لتنهال برقيات العزاء على رئاسة الجمهورية وتسود صفحات الصحف ويهرع الناس إلى الشوارع تعبيراً عن حزنهم العميق.
وفي الخامسة من فجر الخامس من شباط، أضاءت مستشفى المعادي كافة أنوارها وفتح الأطباء باب ثلاجة الموتى ليخرج جثمان فقيدة الفن استعداداً لمشهد الوداع، وتم غسل الجثمان بزجاجتين من ماء زمزم كان قد أرسلهما من السعودية الأمير عبد الله الفيصل عقب الإعلان عن الوفاة، وتم لف الجثمان في 11 ثوباً آخرها من الملس الأخضر الفلاحي كالذي كانت ترتديه أم كلثوم في بداية حياتها. ووصل الجثمان إلى مسجد عمر مكرم بقلب القاهرة في السادسة وعشر دقائق صباحاً، وبعد أربع ساعات ونصف الساعة، أقيمت صلاة الجنازة وأمَّها وزير الأوقاف في ذلك الوقت الدكتور عبد العزيز كامل، في حضور رئيس الوزراء والوزراء وكافة سفراء الدول الإسلامية في القاهرة، ومندوبين عن بعض الملوك والرؤساء العرب. وفي الحادية عشرة صباحا بدأت فرقة الشرطة عزف اللحن الجنائزي، وخرج الجثمان من المسجد إلى قلب ميدان التحرير وسط حشود بالآلاف افترشت الميدان الفسيح، وأبت الجماهير إلا أن تصلى على الجثمان مرة أخرى في مسجد الإمام الحسين قبل أن يستقر في مقبرته بمنطقة البساتين جنوبي القاهرة.ومن بين عشرات المقالات التي غصت بها صحف السادس من شباط غداة الجنازة الكلثومية، كتب الأديب نجيب محفوظ في "الأهرام"، وهو العاشق المتيم بصوت كوكب الشرق، تحت عنوان "قلب العالم العربي": "الفنان نوعان، واحد صاحب عبقرية فنية لكنه قد يكون في الوقت نفسه إنساناً رديئاً، وآخر صاحب عبقرية فنية أيضاً وفي الوقت نفسه صاحب عظمة إنسانية، من هؤلاء بيتهوفن وسارتر، وكانت أم كلثوم فنانة عبقرية وإنسانة عظيمة، تتبين عظمتها الإنسانية في التزامها بالمبادئ السامية مثل الأخلاق الوطنية والقومية، وهذا الهدير المزلزل الذي أحدثه صوتها والذي لا يكون عادة إلا للقادة والزعماء، وهي بذلك تمثل خير ما أعطته مصر للتاريخ ألا وهو الفن الخالد والضمير الحي، وإني أنزل بكل خشوع عن المساحة المخصصة لروايتي "قلب الليل" إلى قلب العالم العربي".