رفضت المصارف تحميلها مسؤولية ضياع أموال المودعين، وتنصَّلَ مصرف لبنان من حصّته في المسؤولية، خصوصاً عبر سوء الإدارة عمداً، بل وتسهيل مهمّة ضياع الأموال وعرقلة إعادة ما تبقّى منها، وذلك من خلال التعاميم التي غَطَّت تقييد المصارف لعمليات سحب الودائع، لا سيّما الدولارية منها، أو سحبها بالليرة وفق أسعار صرف تُفقِدها قيمتها الفعلية. وخلال 5 سنوات، أصرَّت إدارة مصرف لبنان، بدءاً من حاكمه السابق رياض سلامة، والحالي وسيم منصوري، وبالتوازي نوّاب الحاكم ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة، على أنَّ لا شوائب حول قرارات المصرف المركزي، وليس هناك شبهات حول عمليات مصرفية غير قانونية قامت بها المصارف.
اليوم، ومع المتغيّرات السياسية التي شهدها لبنان والمنطقة، وإعلان دخول لبنان في عهد جديد تمثَّلَ بانتخاب رئيس للجمهورية والتحضير لتشكيل حكومة جديدة، تحاول الدولة اللبنانية تعديل مسار قضية الودائع، وتحميل المسؤوليات لأصحابها الحقيقيين.
أزمة مفتعلةفي سياق مطالبة المودعين باستعادة أموالهم، اجتهدت المصارف في اعتبار أنّ إعادة الأموال تنتظر الدولة بوصفها المسؤول المباشر عن استدانة الأموال عبر مصرف لبنان. ولم تتوانَ الأصوات المؤيّدة لهذا الحل، عن اقتراح بيع أصول الدولة لسداد الودائع. وبالتوازي، دافعَ مصرف لبنان عن نفسه، فقال سلامة مراراً إنّه أعطى الحكومات المتعاقبة المال بناءً لطلبها. لكن المصارف وسلامة تناسوا أنه بغضّ النظر عن التبريرات، فقد أضاعوا أموال الناس خلافاً لقانون النقد والتسليف، ولم يكن تبديد الأموال جبراً، بل طوعاً وطمعاً بالفوائد.ولأن إضاعة الأموال جاءت تحت مظلّة مصرف لبنان، وبموافقة مجلسه المركزي على القرارات التي ساهمت بتبديد الأموال، فإنّ الدولة اللبنانية، ممثلة بشخص رئيس هيئة القضايا في وزارة العدل أمام المحكمة المالية هيلانة إسكندر، تقدّمت أمام المحكمة المالية بتاريخ 14 الجاري بدعوى ضد أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان السابقين والحاليين، بمن فيهم الحاكم السابق رياض سلامة، والحالي بالإنابة وسيم منصوري، لمسؤوليتهم عن الأخطاء القانونية الجسيمة المرتكبة على خلفيّة موافقتهم على إصدار تعاميم تناقضت مع قانون النقد والتسليف الذين حلفوا يمين الالتزام بمضمونه أمام مقام رئاسة الجمهورية.وأدّت تلك التعاميم في مرحلة أولى إلى تهيئة الأسباب لوقوع أزمة مفتعلة غير نظامية، وفي مرحلة ثانية إلى تحوير الارتكابات وتحميلها للمودعين وللدولة اللبنانية. ولأنّ الأزمة غير نظامية، ويتوجب تحميل المسؤولية للمدّعى عليهم عن أخطائهم الفادحة خلافاً للأحكام القانونية، وتحميلهم التعويض المادي والمعنوي بقيمة 140 مليار دولار عن كل فئة (المادي والمعنوي) إضافة إلى العطل والضرر.
إعادة خلط الأوراقأهمية هذه الدعوى أنها تعيد خلط أوراق قضية المودعين ومسؤولية مصرف لبنان والمصارف عنها. وتبرز أهميتها برأي أستاذ القانون والمختصّ بالرقابة على المصارف المركزية، المحامي الدكتور باسكال ضاهر، عبر "توصيفها أنّ الأزمة غير نظامية، أي مفتَعَلة، لأنها وسنداً للأحكام القانونية، حدثت نتيجة ارتكاب أخطاء ومخالفات قانونية جسيمة ولأنها لم تكن غير مُتَوَقَّعة الحصول، كما ولأنها لم تأتِ نتيجة حدث خارجي أجنبي. ولذلك لا ينطبق عليها توصيف أزمة تدحرج أحجار الدومينو لأنّ هناك مشارَكة بالارتكابات، والدليل على ذلك أنه توجد بعض المصارف المليئة والتي تقول إنها تستطيع التسديد للمودعين بسبب عدم مشاركتها بالمخالفات التي حصلت بنسب مرتفعة".وأخطاء مصرف لبنان "تندرج ضمن قسمين، الأول هيّأَ للوقوع بالأزمة والثاني عمل على تحوير الارتكابات بتحميلها لغير مرتكبيها، أي المودع والدولة والشعب برمته"، وفق تعبير ضاهر الذي يشير في حديث لـ"المدن"، إلى أنّ الأخطاء "لا تنحصر بالقرارات التي أصدرها مصرف لبنان خلال الأزمة فقط، بل تتضمَّن قرارات صادرة منذ التسعينيات، هيّأت للوقوع بما نحن فيه، ومنذ ذلك الحين عمد القيّمون على المصرف المركزي إلى إصدار تعاميم أخرجت المركزي عن دوره وطبيعته المحدَّدة له في قانون النقد والتسليف كناظم وضابط لإيقاع العمل المصرفي ورسالته حماية الليرة اللبنانية، وذلك حصل نتيجة إرساء دعائم غير مشروعة بدأت بتثبيت سعر الصرف ومرّت بإصدار كتلة تعاميم تتناقض مع قانون النقد والتسليف، منها التوظيفات الإلزامية والهندسات المالية وما شابه. وتحوّل المركزي بذلك إلى جهة ترمي لاستقطاب الدولارات بهدف منحها للحكومات المتعاقبة خلافاً لقانون النقد والتسليف، لا سيّما المادتين 90 و91 منه. ثم وبعد اشتداد الأزمة عمدوا إلى إصدر تعاميم بداءً من التعميم 151 وغيره، رمت إلى تحوير الارتكابات وإطفاء المخالفات من جيوب غير المرتكبين وتحميل نتائجها للدولة والمودعين والشعب".
مسؤولية المصارفإعادة تسليط الضوء على مسؤولية مصرف لبنان في إضاعة الودائع وتعزيز الوقوع في الأزمة، تطال المصارف أيضاً بوصفها مسؤولة بالتكامل مع مصرف لبنان. فكما خالفَ القيّمون على مصرف لبنان قانون النقد والتسليف، خالفته المصارف التي "كانت تعلم بنتائج قرارات المركزي، لكنها وافقت عليها لكي تقبض فوائد مرتفعة نتيجة استقطاب الدولارات".ويؤكّد ضاهر أنه "كان يمكن للمصارف أن ترفض وضع أموالها في المصرف المركزي الذي لم يجبرها على وضع الدولارات لديه، والدليل أن المركزي أصدر التعميم رقم 62/1999 منع بموجبه المصارف من توظيف أو إيداع أموالها إلّا في مصارف خارجية مصنّفة من درجة إئتمانية BBB. وهنا تقضي الإشارة إلى أنّ هذا التصنيف أقلّ مخاطرة من التصنيف الذي كان محدداً للبنان، بموجب وكالة فيتش في العام عينه أي العام 2000 عند BB، علماً أنّ هذا التصنيف قد تدنّى أيضاً في السنوات التالية".ومع أنّ المخاطر مع الوقت باتت أعلى "قَبِلَت بها المصارف. أي أنّه لو كانت تسعى إلى التقيّد بالامتناع عن المخاطرة، لكانت أودعت الأموال التي تلقتها من الجمهور وفق أحكام هذا التعميم لدى تلك المصارف المصنّفة BBB، أي الأعلى من تصنيف لبنان إنّما أقلّ ربحية".القيّمون على المصارف بالنسبة لضاهر "تخطَّوا بممارساتهم الدور المحدّد لهم في قانون النقد والتسليف كمصارف تجارية. فالمادة 121 من القانون (المعطوفة على المادة 156 منه) نصَّت على أنه "تدعى مصرفاً المؤسسة التي موضوعها الأساسي أن تستعمل لحسابها الخاص في عمليات التسليف الأموال التي تتلقاها من الجمهور"، وباتت المصارف تتعامل كمصارف أعمال، وتتعامل مع المودع بوصفه مستثمراً ويشارك في الخسائر من دون الأرباح".هذه الدعوى قادرة على الوصول إلى نتائج إيجابية في ملف المودعين، وبصورة تحمي أصول الدولة وحقوق كل الناس، فهي تقلب الطاولة وتبيِّن تورُّط المسؤولين الفعليين عن الأزمة، وتكشف مسؤولية المصارف. ومع ذلك، فإنّ هذه الدعوى "تحمي النظام المصرفي. فالقانون يفرِّق بين المؤسسة المصرفية والقيّمين عليها. ولذلك، فإن المسؤولين عن هذه الأزمة في القطاع المصرفي، مسؤولون بصفتهم الشخصية". ونجاح هذا الملف سيعيد انتظام العملية المالية للدولة اللبنانية. وهناك نماذج نجحت قبلاً، "منها ما حصل في أيسلندا حيث أنشأَ البرلمان لجنة تحقيق برلمانية لتبيان مسبِّبات الأزمة، وخلصت اللجنة إلى تقرير يحدّد المسؤوليات، وعادت البلاد إلى حالتها الطبيعية خلال سنتين".وكذلك، فإن التوسّع في هذه القضية وانكشاف المزيد من الأدلة على تورّط مصرف لبنان والمصارف، قد يسرِّع إعادة هيكلة المصارف وتحديد مَن منها سيُكمِل في السوق ومَن سيخرج أو يندمج، ممّا يساعد في تحديد كيفية إعادة ما تبقّى من الودائع.