تبدو الإدارة الأميركية الجديدة على عجلة من أمرها في التعامل مع الملفات العربية خصوصاً، ومع قضايا المنطقة الشرق أوسطية بشكلٍ عام. وأول حِزمة من المكالمات الهاتفية الخارجية، فتحها الرئيس دونالد ترامب مع القيادات العربية، وهو قال إنه سيبدأ زيارته الخارجية من الشرق الأوسط أيضاً، كما بادر إلى تعيين مبعوثين للتعاطي مع الشؤون الفلسطينية واللبنانية والسورية على الفور، وفي الحسابات الترامبية لوائح طويلة فيها جردة من العناوين المتعددة والمختلفة ومنها غريبٌ بعض الشيء.
يمكن التأكيد أن الرئيس ترامب سيعتمد في المقام الأول، على المقاربات المالية والاقتصادية، وعلى المقومات الاستراتيجية الهامة التي تحتويها المنطقة، والتي يمكن توظيفها في مسار سياسته الداخلية والخارجية، لما فيها من عناصر قوة جيوسياسية ومالية وعسكرية وثقافية. والواضح أن الإدارة الجديدة قررت مسك الملفات التي تعني الشرق الأوسط بشكل مباشر، من دون وكلاء وأذرُع كما كان في الماضي القريب، سوى إسرائيل التي تستعين فيها "كبعبع" عدواني عند الضرورة.
ويبدو أن واشنطن ستستخدم عناصر القوة الموجودة في الشرق الأوسط لمواجهة أخصامها في آسيا، ولفرملة حراك حلفائها في اوروبا والغرب. فالشرق الأوسط ممر الزامي لمبادرة "الحزام والطريق" الصينيةن ويتحدَّد من خلاله مستقبل سير المبادرة، وللمنطقة دور في نجاح أو فشل مشروع مجموعة "بريكس" المالي المنافس للدولار الأميركي، كما أنها مجال حيوي لأوروبا ولروسيا، بحيث مَن يمتلك نفوذ في الشرق الأوسط؛ يمتلك نفوذ على الساحة الدولية بطبيعة الحال.
يمكن تفهُّم غالبية الخطوات الأميركية الجديدة، ومُعظمها ركائز اعتمدتها واشنطن على الدوام؛ لكن بعض العناوين المُستحدثة، أدخلت فزعاً سياسياً وأمنياً كبيراً في الأوساط العربية والدولية، لا سيما منها ما أعلنه الرئيس ترامب في خطابه عبر الفيديو أمام مؤتمر دافوس في 23 كانون الثاني/يناير الماضي، فيما يتعلَّق بزيادة الرسوم الجمركية وبدفع كلفة فاتورة الأمن، وفي مكالماته الهاتفية مع الأمير محمد بن سلمان حيث طلب زيادة الاستثمارات السعودية في الأسواق الأميركية إلى تريليون دولار، وزيادة انتاج النفط، وفي حديثه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومع ملك الأردن عبد الله الثاني، وطلب منهما استقبال أعداد من فلسطينيي غزة والضفة الغربية في مصر وفي الأردن، بحجة توفير ظروف حياتية أفضل لهم.
يرفض الرأي العام العربي بالمطلق التوجهات الأميركية الجديدة، خصوصاً في يتعلق بتهجير الفلسطينيين من أرضهم الى دول الجوار، والمسؤولون في مصر والأردن لا يقبلون الدخول في هذه الصفقة على الإطلاق، وهي تخالف ركائز سياسة البلدين العقائدية والسياسية، وقبول الطلب يعني انتحار سياسي مؤكد لكلا الحكومتين، وهؤلاء تحمَّلوا الضغوطات الميدانية والسياسية والإنسانية الكبيرة إبان مرحلة الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة طيلة 15 شهراً، ولم يسمحوا للفلسطينيين المنكوبين بالخروج من أرضهم، لأن ذلك يعني عدم عودتهم اليها من جديد، فيما يعتبر تكراراً لتجارب سابقة حصلت عامي 1948 و1967، وبقي النازحون الفلسطينيون في الأردن وفي مصر وفي لبنان، رغم صدور قرار أممي يحفظ لهم حق العودة.
وفي مصر حالياً، ما يزيد عن 9 ملايين نازح من السودان ومن فلسطين ودول أخرى، كذلك فإن الأردن يستضيف ما يزيد عن 3 ملايين من المهجرين الفلسطينيين والسوريين، ولا مجال للبلدين بتحمُّل عدد أكبر، على الرغم من أن قبول استضافة الفلسطينيين هذه المرة؛ سيعني حكماً تآمراً على القضية الفلسطينية، وخروجاً عن الثوابت العربية، وهو ما لن تُقدم عليه القاهرة وعمان مهما تعالت الضغوطات عليهما.
مبعوث الرئيس ترامب لشؤون الأسرى آدم بولر قال إنه بحث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تل أبيب، خطة ترحيل سكان غزة، وانتقد موقف مصر والأردن من الخطة، ويشكِّل موقفه وقاحة سياسية غير مقبولة، أو جهلاً لخصائص المنطقة التاريخية والسياسية. والرؤى الإنسانية التي تستند اليها الإدارة الأميركية لتسويق مشروع "الترانسفير"، لا يمكن قبولها على الإطلاق، بحيث أن المساعدة الأميركية لإسرائيل كانت سبباً رئيسياً في إحداث الدمار والخراب والقتل الذي حلَّ بغزة وبأهلها، كذلك فإن رفع العقوبات الأميركية عن القتلة والمتطرفين من المستوطنين في الضفة الغربية؛ يعتبرُ إذناً صريحاً لهؤلاء بمتابعة أعمالهم الإجرامية، ويشجِّع على استمرار العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين.
يبدو بعض أركان الإدارة الأميركية الجديدة المُكلفين بمتابعة ملفات الشرق الأوسط على جهلٍ تام بخصائص المنطقة العربية، ويحاولون الوقوع بذات الأخطاء التي ارتكبها اسلافهم في مراحل سابقة، وكلها لم تؤدِّ الى أي نتيجة، بل قوَّضت فرص تحقيق السلام العادل والشامل الذي أنشدته الاتفاقيات الدولية، لا سيما مؤتمر مدريد للعام 1991، واتفاقية أوسلو للعام 1993، ومؤتمر القمة العربية في بيروت للعام 2002.
أما الحسابات الميثولوجية التي يتبناها بعض صقور الإدارة، والمبنية على استحقاقات تاريخية ودينية؛ فهي واهية وليس لها أي أساس تاريخي، وفلسطين عربية منذ فجر التاريخ، وكانت موئلاً للديانات السماوية الثلاث، وحاضنة لتنوع سكاني متعدد الثقافات، وهي أرض ميعاد لكافة أبنائها، والأخطاء التي تُساق حولها في بعض المحافل ليست واقعية على الإطلاق.