2025- 01 - 31   |   بحث في الموقع  
logo رئيس الجمهورية اتصل بدريان مطمئناً على صحته logo واشنطن تعلّق على تعيين الشرع: حذارِ الجهات الأجنبية الخبيثة logo مسيرات لـ”حماس” في المخيمات الفلسطينية في لبنان logo “حزب الله” عزى باستشهاد الضيف وثلة من رفاقه logo عبد العاطي: متفائل بتشكيل حكومة قريبا logo الخطوط الجوية الفرنسية تستأنف رحلاتها من والى بيروت logo مثقفون سوريون يطالبون بهيئات منتخبة تسنّ قوانين العدالة الانتقالية logo الحقد عطب، نار وانت الحطب... (سمير مسره)
عن أرواح لم تنَل راحة السقوط
2025-01-31 19:27:49

ثمّة شعور بالقلق يرافق الانتظار دوماً. أطرق مجدداً على باب الخشب العتيق وأنتظر، لا يتبدد ذلك القلق حتى أسمع وقع خطوات أحدهما يقترب، ودوران مقبض الباب. لم يبق في بيتنا سوى والديّ.أبي، الذي رافقته قبل شهور إلى المشفى الحكومي في رحلة امتدت لأيام، كانت كفيلة حينها بتلاشي ما تبقى لدي من أمل في الحياة كما يفترض أن نحياها، بلا ظلم ولا خوف ولا انتظار. تنزل قطرات الدم المنقول إلى جسسده، بطيئة، باردة، ولزجة، لتنقذ أبي الذي أنهكه التعب، سنوات التدريس الطويلة، العمل في الزراعة. أبي الذي اكتشف، منذ خدمته كملازم في حرب تشرين لأربع سنوات ونصف السنة، سفالة ذلك النظام، زيفه وبطشه. أرنو إليه وهو يغفو منهكاً في غرفة مكتظة بالمرضى والمرافقين، بين وجوه شاحبة، تنطق بالإرهاق والبؤس. يبدو الفقر صارخاً في ملابسهم وأدواتهم، في أسنانهم المنخورة المكسرة، ويبدو جلياً في عيونهم.وأمي، التي لم تُخفِ الجراحة الأخيرة لعينيها مسحة الحزن التي رافقتهما طوال السنوات الماضية. حزن كانت تتلوه دائماً بكلمات: ربما لن يمهلني العمر لأرى ولديَّ المهاجرَين مجدداً. أمي التي تَعلمت منها معنى العدالة، حين كانت تعاملني في المدرسة الإبتدائية بلا تمييز ولا تفضيل، بل كتلميذة لا تربطها بها أية قرابة.يُفتح الباب، وَيرحب بي والداي الآن بعيون مختلفة، كما السوريين جميعاً. فقد انتهى عهد الظلام، انتهى عهد الأسد الذي ترك البلاد أنقاضاً، في البناء، والاقتصاد، والتعليم، والصحة، وحتى في الأرواح! أيام أمضيناها مذهولين، نتابع الأخبار، نراقب دخول المدن، إعلانها محررة، القصور والسجون، والمعتقلين.يقبّلني إبني بعفوية، تلمع عيناه ويكاد يبكي، يمنعه خجل المراهقين من إظهار مشاعره الجياشة. يبدو لي ذلك هو الانتصار الحقيقي، التقدير في عيون أولادي، لأني لم أصمت يوماً عمّن يعتقل الأطفال.تشارك ابنتي صورتها في "ساحة الكرامة"، ابنتي التي تعرضت للضرب وهي لا تزال جنيناً في رحمي بداية الثورة، ها هي الآن صبية في الثالثة عشرة، في عمر ديمة، ابنة رانيا العباسي الكبرى، في عمرها حين اعتُقلت مع أمها الطبيبة وبطلة الشطرنج، ومع أخوتها الأربعة ووالدهم الذي تم التعرف عليه لاحقاً ضمن صور قيصر.كلما نظرت إلى صورتهم الجماعية، استولى عليّ الحزن مجدداً، الحزن من ذلك الفرح الذي تنطق به عيون ديمة وانتصار ونجاح، فرح يَتحول شعوراً بالخجل الجليل من دون تحوله لضحكات مسموعة.ما أبهى الحياة التي كانت تشع في عيونهم، حين كان كل شيء يبدو لهم سعيداً ونقياً وخالداً! يَتملّكني الذهول مجدداً من تلك الجريمة، أي شياطين أولئك الذين يعتقلون عائلة كاملة، أطفال بين الثالثة عشرة والأشهر، وأي عالم إنساني ذلك الذي يسمح بحدوث كارثة كهذه!في حين يحتفل معظم السوريين بسقوط النظام، بما فيهم مَن ساهم في بقائه، ما زال الآلاف يبحثون عن أقاربهم، أبنائهم، وحتى عن أحفادهم. يبحثون عن كلمات أو إشارات حُفرت على جدران السجون والزنازين، عمن رآهم أو سمع بأسمائهم. يريدون الحقيقة، يريدون أن يتوقفوا عن الانتظار الذي استهلك أعمارهم، الانتظار الذي يجعل الحياة تتوقف في عيون الأمهات، ولو لدقائق، حين لا يعود لأمر قيمة أو معنى.منذ سقوط النظام، تنتظر أم غياث مطر، خبراً عن ولدَيها المعتقلَين في سجن صيدنايا، لكن لا شيء يخبرها أنهما متوفّان، ولا شيء يخبرها أنهما على قيد الحياة. ولم تكتمل فرحة فدوى محمود، والدة وزوجة مغيّبين قسراً، وتنتظر، وهيهات أن يدرك أحد معنى الانتظار كالآباء والأمهات.هيهات أن يدرك أحد معنى الاستيقاظ عند الفجر، والتذكر. معنى أن ترى عيون أبنائك الغائبين كلما حاولت إغماض عينيك.يطير الحمام فوق عمود المرجة، متآلفاً مع البشر المارين، ويحط بجانب الصور الملصقة على قاعدة عمود التلغراف، يؤنس صور المغيبين قسراً. ومع كل يوم يمر، يتضاءل الأمل بمعرفة مصيرهم كورقة محترقة.ألا يجب أن ترتاح تلك الأرواح؟ ألا يجب أن يُعاقب مَن ساعد في إخفائها؟ مَن مدّ تلك العصابة بلحظة للبقاء؟ كيف سنعيش معهم؟ كيف سَنُكمل حياتنا إلى جانبهم وكأن أمراً لم يحدث؟ وكيف بالإمكان الغفران؟!أُتلف الكثير من الأدلة والوثائق، تحولت رماداً عمداً قبل رحيل النظام، وتُركت السجون والمعتقلات بعدها للعامة، يعبث بها الجهلة، ينظفون ويلونون، ينزعون الصور، يخربون ويطمسون الأدلة على أبشع جريمة عرفها التاريخ الحديث.بعيون لامعة استقبلني والداي في يوم السقوط، عيون اختفى الحزن منها، تستعد للقاء الأبناء. لكن ماذا عن أهالي المعتقلين، ماذا عن تلك الجروح التي لا تلتئم؟! هل هذه هي نهاية الحكاية؟ أن يبقى المغيبون غائبين؟ أن يبقى كل ما حدث سراً، ووحدها عيونهم تعرف الحقيقة؟ اعتقلت تلك العصابة بلاداً بأكملها، أخفتها قسراً عن العالم، قتلت الأمنيات والأحلام، شوهت حيواتنا بطريقة أو بأخرى. خطفت بريق عيوننا، ثمّ تركتنا والعالم مذهولين من هول ما فعلته.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top