كشفت الانتهاكات ضد فريقي "أم.تي.في" و"أل.بي.سي.أيه" في الجنوب مطلع الاسبوع الحالي، عن أزمة فعلية في التعرف على نوايا الإعلام ومقاربتها بطريقة "تأويل" الخطاب. إذ ادعى المعتدون في الحادثتين، أن القناتين لم تستخدما مصطلح "شهيد" بل "قتيل" في وصف ضحايا الاعتداءات الاسرائيلية، مما يبرر، حسب هؤلاء، طرد فرق القناتين من المنطقة.
وتأويل الخطاب، لجهة محاكمة النوايا وإصدار أحكام مطلقة، تمثل جزءاً من أزمة ممتدة منذ بدء الحرب على لبنان في أيلول/سبتمبر الماضي، تُضاف الى التضليل المستخدم. ففي الأسبوع الثاني من الحرب الإسرائيلية الموسعة على لبنان، أشعل تقرير نشرته قناة "أم تي في"، هواجس اللبنانيين من الفارين من الحرب إلى مناطق أكثر أماناً، حين ادعى معدوه وجود مسلحين في بعض مراكز الإيواء، بينها منطقة الأشرفية في بيروت، مما غذّى المخاوف، وأنتج خطاباً معارضاً لوجود النازحين، لم تنتهِ مفاعيله بالنفي الرسمي لتلك الإدعاءات.
والتقرير، كان عيّنة من أداء إعلامي غير موثّق، لا يفصل بين الحق بالمعارضة السياسية، وبين تضليل قائم على خلفيات سياسية أيضاً، يستهدف فئات مدنية ضعيفة نزحت جراء الحرب، تماماً مثل خطاب انتشر على النقيض، لا يعترف بالحق في الاختلاف السياسي، فذهب الى تأويل الخطاب المعارض لـ"حزب الله"، وانزلق عبره المبادرون إليه، الى التخوين على خلفيات سياسية، فانتشرت لوائح "الشرف" و"العار" واتخذت مساحتها في مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات إعلامية محلية.ويعكس الخطابان خلال الحرب الأخيرة على لبنان، إستغلالاً غير معلن لوسائل الاعلام ومواقع التواصل، بغرض التأثير السياسي، كما يؤشران الى وظيفة جديدة لتلك الوسائل خلال الأزمات، تستخدم الأدوات كافة، بما فيها المحظورة أخلاقياً وقانونياً، لتغذية سلوكيات تبرر تقويض الحق في التعبير عن الرأي، وتنتج خطاباً معمماً لا يفصل بين الحق في التعبير عن الرأي السياسي، في حالة الناشطين المعارضين للحزب، وانتهاك الفئات الضعيفة، في حالة النازحين الى مناطق أكثر أماناً.مسلحون في مراكز الإيواء
ومع أن الشواهد على التضليل خلال الحرب، سارت بوتيرة يومية، وعملت منصات متخصصة بمكافحة اضطراب المعلومات، من الاتجاهات كافة، على تصويبها، إلا أن تقرير قناة "أم تي في" حول وجود مسلحين في مراكز الإيواء، مثّل علامة فارقة في وظيفة الإعلام خلال الأزمات القائمة، أساساً، على توثيق البيانات، إلتزاماً بالمسؤولية المهنية، والاعتماد على المصادر الرسمية، ومقاطعة المعلومات، وحماية الأفراد والمدنيين.خلافاً لذلك، لم تستند القناة الى أي مصادر رسمية، وجهّلت مصادرها. جاء النفي من مصادر أخرى، ابرزها وسائل إعلام مقربة من "حزب الله"، وتقاطعت مع نفي "القوات اللبنانية"، الحزب المعارض لـ"حزب الله"، على لسان النائب عن "القوات" في الأشرفية غسان حاصباني الذي أكد أن لا مسلحين في مراكز الايواء في الأشرفية.لكن القناة بقيت مصرّة على روايتها، وردّت بتقرير بثته في نشرات الأخبار، لم تقدم فيه أي أدلة على وجود مسلحين في الأشرفية، واستندت الى ثلاث فيديوهات غير مرتبطة بالحادثة التي تحدثت عنها قبل 24 ساعة. ففي الفيديو الأول، استندت الى فيديو يظهر مسلحاً في مدينة مرجعيون، قالت إنه ينتمي الى "حزب الله" ويتحدر من بلدة دبين، وهو ما نفته مصادر ميدانية وشهود عيان وأهالي البلدة.. كما استندت الى فيديو يظهر مسلحاً في مدينة طرابلس بالشمال، لا يثبت أنه كان في مركز إيواء، كما عرضت فيديو لشخص يقتحم مركز إيواء في سن الفيل، ولم يظهر في الفيديو أي سلاح.. وهو ما يقود الى أن المزاعم الأولى، كانت انزلاقاً الى تضليل لم يتم التراجع عنه.انتهاك للمواثيق
والتضليل في هذا السياق، يناقض المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يحظر "أيّ دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف". كما أن التضليل في التقرير المُشار إليه، والذي غذّى الانقسام على أساس فئوي، يناقض المادة 26 من العهد نفسه التي تحظر أي تمييز، وتكفل "لجميع الأشخاص على السواء حماية فعالة من التمييز لأي سبب، كالعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب".التأويل
وينسحب انتهاك الحقوق الأساسية المكفولة بالدستور اللبناني والمواثيق والشرائع الدولية، على الطرف المقابل الذي ذهب إلى تأويل الخطاب، بغرض إثبات الخلاف السياسي وتغذية الإنقسام، في انتهاك مقصود لحرية التعبير، وللإعلان الدولي لحقوق الانسان الذي تنص المادة 19 فيه على "حق كل فرد في التعبير عن آرائه بحرية وبلا تدخل". فإجهار معارضة لـ"حزب الله"، أنتج في المقابل خطاباً تخوينياً وضع معارضي الحزب في خانة موازية لإسرائيل، وذلك في مسعى لتقويض هذا الخطاب، بذريعة "التماهي مع دعاية العدو"، و"تبني السردية الاسرائيلية".والخطاب التخويني، لم يستند الى قراءة حرفية لتغريدات لبنانية معارضة على أساس سياسي، بل على تأويل للخطاب، يتماهى مع أُمنيات القائمين به، من منطلق سياسي أيضاً. فقد اتُهِمَت الناشطة السياسية مريم مجدولين لحام بالتحريض على قتل مسعفي "الهيئة الصحية الاسلامية"، بعد اعتبارها أنّ كل مسعف في "الهيئة الصحية" (التابعة لحزب الله) هو "مسعف ميداني للمقاتلين" و"ليس مدنياً محايداً"، قبل أن تشتعل حملة ضدها.ولحام، التي حذفت التغريدة، وُضِعَت في موقع التبرير للعدو في قتل المدنيين. تراجعت بعد تأكيدها أن المراجعة القانونية "تفيد بأنهم حتى ولو تلقوا تدريباً عسكرياً كأفراد، وحتى لو كان أعضاء الهيئة مسعفين أو غير مسعفين متمولين من منظمة عسكرية لاشرعية مصدر دخلها غير شرعي، فهم يُعتبرون قانوناً "مدنيين" طالما أنهم غير مشاركين رسمياً بالحرب كمقاتلين بل تحت صفة إسعافية-إنقاذية".ومن شأن تأويل الخطاب، أن يضع الناشطين في موقع الإتهام، مما يناقض الشرعات الدولية التي تكفل الحق بالتعبير. تعرّض الإعلامي مارسيل غانم للاختبار نفسه، حين عرض تقريراً يستند على معلومات من مصادر مفتوحة عن "جمعية مؤسسة القرض الحسن"، التي تعرضت بدورها، كما مراكز "الهيئة الصحية"، للقصف الإسرائيلي. وردّ غانم على معارضيه، بكيل الاتهامات أيضاً لهم، كما فعلت مجدولين لحام قبله، مما أجّج الاتهامات المتبادلة ضمن حملات منظمة، تسعى لتشويه السمعة والتخوين وتأحذ حيّز "الهجوم الشخصي"، وتستهدف، في خلاصتها، الحق بالتعبير عن الرأي.تقويض للحقوق
والحال أن النموذجين المعتمدين للتضليل والتأويل، يعكسان أثر التضليل في النشاط الحقوقي، ويعززان مخاوف الأمم المتحدة من "التحديات التي يشكلها التضليل الإعلامي وتدابير التصدي له" على حقوق الانسان، لا سيما الحق بالتعبير، وحماية الفئات الضعيفة التي تظهر في الأزمات والحروب، بما يتخطى أي وقت آخر.أثبتت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، أن التضليل مرتبط بالخلفيات السياسية، كذلك تأويل الخطاب، مما يستدعي بذل جهود إضافية للفصل بين الاتجاهين، بغرض تكريس تنوع اعلامي لا ينتهج أي مقاربة إلغائية ويعزل الخطاب عن الأقطاب والمحاور.