ما الإرث الأخير الذي يريد نبيه برّي تركه لأتباعه؟ فالأرنب الذي سحبه من كمّه، بادعاء تثبيت "الطائف" وزارة المال إقطاعية شيعية، هو أرنب ميت. و"الأستاذ" رماه هكذا عمداً كطرد مشبوه يُرسل لتخويف الخصوم.منذ شباط 1984 وإلى يومنا هذا، يقود برّي طائفته فوق أرض من معارك، انتصاراتها كثيرة وهزائمها أكثر. ويمكن اختصارها بأنها خروج ودخول إلى لبنان، مرات ومرات من غير استقرار. لكنها سيرة مستقرة على استدامة "الخوف" وديمومة "المظلومية". حرص شبه ديني واعتناق محموم لهوية المظلومية ولو اضطر الأمر لابتداعها في عز القوة والتسلط.
اليوم، تبدو وزارة المال صنو الوجود الشيعي بأسره، تماماً كما كانت وزارة الطاقة عند جبران باسيل صنو "حقوق المسيحيين". وفي الحالتين، وطوال 15 عاماً ذهب المال وتبددت الطاقة، وخرب الوجود اللبناني كله وهدرت حقوق اللبنانيين جميعهم.ومن غير المعلوم، من بدأ بهكذا عُرف في توزيع الحقائب أو احتكارها، أو في تصنيف الوزارات سيادية وغير سيادية، أو في تقاسم الحكومة أثلاثاً أو أرباعاً، أو سبغ "الميثاقية" أو سحبها منها. وهي أعراف أسوأ حتى من بدعة الديموقراطية التوافقية، وأسوأ من صنع حكومة "ميني" مجلس نواب. لكن المعروف أن سهم برّي في كل هذا كان كبيراً، منذ ما قبل الطائف، وفق ما كان يُطرح في مؤتمريّ جنيف ولوزان، و"الاتفاق الثلاثي" (1985)، وفي مداولات مؤتمر الطائف نفسه، وصولاً إلى عهود رئاسته المديدة للمجلس النيابي، كتاريخ يصعب حصر المرات التي تميز فيها برّي بتفسيراته الدستورية الملتوية واجتهاداته الصاعقة.
ومن هذا الإرث، وعلى هديه، سارت الجماعات السياسية اللبنانية، متقافزة متشاطرة ومتناكفة، وكأن هذا الشغب المؤذي هو السياسة ولبها وغايتها. واعتاد اللبنانيون على الظن أن الحقوق والديموقراطية والعدالة والمصلحة ومغزى الدولة والحكم والسلطة إنما تكون في هذه المنازلة الأبدية التي تسمى "محاصصة".
وكالأوعية المستطرقة، يغذي مطلب المحاصصة بعضه البعض بين الأحزاب والطوائف والكتل النيابية، إلى الحد الذي جعل كل استحقاق رئاسي أو حكومي، أو حتى توظيف عمال نظافة في مؤسسة عامة، مناسبة لإعادة النظر بالدستور أو تأويله بتفسيرات لا وازع في شططها.وعلى الأرجح، فإن برّي الذي يحدس أن رئاسته للبرلمان قد تكون الأخيرة، يريد أن يضرب ضربته النهائية، التي كان يستبطنها ويؤجلها منذ اتفاق الدوحة عام 2008. فما حصّلته الشيعية السياسية بالتراكم لأكثر من ثلاثة عقود، وخصوصاً مع عهد "فائض القوة والسلاح"، يبقى مجرد أمر واقع قابل للتبدد في أي لحظة، تماماً كما حدث في الأشهر الأخيرة مع الهزيمة العسكرية لحزب الله والتي أقرّ برّي بها بموافقته على صك شروط وقف إطلاق النار المذلة. ولذا، وخوفاً على تلك "المكتسبات" وفرضاً للأعراف الغريبة التي أرساها هو وحزب الله، يسعى إلى تعميم قناعة لدى الجميع –من دون إعلان صريح- بأن الوقت حان لإعادة النظر بالطائف والدستور والنظام، من أجل تكريس تلك المكتسبات بنص دستوري مكتوب.نظرياً، لا مشكلة في إعادة النظر بالدستور وتعديله وفق ما تشتهيه الشيعية السياسية. لكن عملياً، وعلى منوال ثقافة المحاصصة، ستعمد كل جماعة سياسية-طائفية لأن تطالب بما تشتهي. وعندها سيكون الدستور نتفاً.. وربما يستحيل لزقه مجدداً.
أبعد من ذلك، وإذا توافرت النية الحسنة عند جميع المكونات الحزبية والطائفية لإعادة النظر ببعض بنود الدستور أو جلّه، تبقى المعضلة الفعلية في المبدأ الأساس: لبنان الوطن النهائي، وهويته العربية. فحسب ما خبرنا، أبدت الشيعية السياسية حماسة متكررة للخروج على هذا المبدأ، ما جرّ الويلات على البلاد. إذ كانت تلك الحماسة مقرونة أيضاً باستثنائية حمل السلاح وخوض الحروب الإقليمية وتهديد قبرص وأوروبا، ومقارعة الولايات المتحدة..إلخ. وعلاوة على ذلك، حماسة أخرى أشد إذية هي هذا الاستعداد لإشعال حرب أهلية عند كل خلاف أو سجال.
فالخروج من لبنان والدخول إليه بهذا اليسر ووفق أهواء حربية مشحونة بالكراهية ومتلحفة بعباءة المظلومية، لا يفيد معه دستور جديد ولا وزارات مال ولا ثلث معطِّل.
أهذا هو الإرث الذي سيتركه برّي؟